الديمقراطية أولاً… الديمقراطية دائماً!

حسين خليفة:

لا أدري أهمية وجود يومٍ عالميّ للديمقراطية، كما توجد أيام لحقوق الإنسان والطفل والمرأة والمعتقل واللاجئ والمنفيّ والحب وغيرها، حتى تكاد تجد في التاريخ نفسه أكثر من مناسبة، لكن ما أعرفه جيداً أن الديمقراطية لا يكفيها يوم ولا أيام، بل ينبغي أن تصبح ممارسة يومية على المستويات كافة: العائلة، والمدرسة، والمجتمع، والمؤسسات الرسمية والأهلية، والحكومات والأنظمة السياسية بشكل أساسي.

سأستسمحك_ عزيزي القارئ_ بنقل هذا المقطع الطويل نسبياً للكاتب الروائي والمفكر الراحل عبد الرحمن منيف، من كتابه القيّم والمهم والراهن (الديمقراطية أولاً… الديمقراطية دائماً) الذي كتبه عقب حرب الخليج الثانية (1991)، لكنه حمل آلام عقود من غياب الديمقراطية وتهميش العقل على مستوى الممارسة السياسية والمجتمعية في بلاد العرب:

(الديمقراطية الأداة_ الشرط هي الأساس، ليس فقط لفهم المشاكل وإنما للتعامل معها، وهي، أي الديمقراطية، بمقدار حضورها كممارسة يومية، وكقواعد وتقاليد، تضعنا في مواجهة مباشرة مع المسؤولية، وتضطرنا مجتمعين للبحث عن حلول، والمشاركة في تطبيقها وتحمّل نتائجها، كما إنها تترك الباب مفتوحاً لمواصلة الاجتهاد والمراقبة والتطوير بحثاً عن صيغ أفضل، من خلال الارتقاء بالحلول التي تمّ التوصل إليها في وقت سابق، وهكذا تصبح الديمقراطية شرط التطور ووسيلته في آنٍ واحد).

الاقتباس المذكور أعلاه مُكثّف ومُعبّر، كما كلّ إنتاج منيف، والجملة الأخيرة تختصر الكثير: الديمقراطية شرط التطور ووسيلته في آن.

إن المآزق الكبيرة التي تعيشها مجتمعاتنا تعود أساساً ومطلقاً إلى علّة غياب الديمقراطية، لا على مستوى الممارسة السياسية السلطوية فقط، وهي ممارسة استبدادية مطلقة تكفيرية خارج التاريخ على تلاوينها وأشكالها، بل على مستويات الفرد والعائلة والمؤسسة والمجتمع.

والعلاج الناجع يبدأ بالديمقراطية أولاً، كما عنون منيف كتابه، ثم تأتي التفاصيل اللاحقة، وهي تفاصيل مهمة ولا يمكن إغفالها، فالديمقراطية هي انعكاس لحالة المجتمع، بما هي بنية فوقية تُشكّل انعكاساً، غير ميكانيكي طبعاً، للبنية التحتية، ومن ثَمّ يمكن لها أن تصبح وبالاً على التطور والمجتمع، وعلى مجمل الحياة، فيما إذا أُخذت بمفهومهما المطلق الفوضوي الساذج، فيصبح بإمكان مجموعات من الجهلة المأخوذين بأفكار ومعتقدات ماضوية متخلفة مناقضة لجوهر الديمقراطية أن يشكّلوا أغلبية المجتمع في لحظة تاريخية، ويحرفوا اتجاه تطوره إلى هاوية وقاع لا تقوم له قائمة بعدها، وذلك بالتطبيق الميكانيكي السطحي للديمقراطية، دون ربطها بمستوى التطور الاقتصادي والثقافي للمجتمع.

وهي_ الديمقراطية_ كما أيّ عقار، يفيد المريض ويأخذ بيده إلى التعافي والشفاء والتطور، ويقوّي جهازه المناعي، شرط أن يكون هناك طبيب ناجح يحدده ويحدد طريقة استخدامه ومدّتها. وقد ينقلب إلى كارثة قد تنهي حياة المريض، فيما إذا أُخذ بلا إشراف طبي أو بجرعات عالية مثلاً، أو بطرق غير صحيحة.

هذا الأمر يفيدنا في النظر إلى الثورات والانتفاضات الاجتماعية المطالبة بالديمقراطية أساساً، والتي تندلع في المنعطفات التاريخية التي تحتاج إلى قوى طليعية تقود وتوجّه مسار الثورة، ولا تتركه نهباً لغرائز ورغبات قطيعية تُخرج الثورة عن مسارها وتحوّلها إلى حروب وكوارث لا تأتي سوى بالخراب، فالمطالبة بالديمقراطية يجب أن تنطلق من أناس وقوى تكون هي ديمقراطية بداية، فكيف لأب مستبدّ طاغية في أسرته أن يطالب بديمقراطية مجتمعية أو سياسية؟ بل كيف لحزب أو حركة تفتقد في آلياتها الداخلية لأي شكل من أشكال الديمقراطية أن تطالب بالديمقراطية؟ فضلاً عن أن تتنطّع لقيادة بلد ومجتمع على طريق الإصلاح والتقدم والديمقراطية؟!

حينئذ نكون قد دخلنا مسرحية هزلية حقيقية هي صورة لما نعيشه كمجتمعاتٍ عالمثالثية، في تجارب أحزاب استبدادية أحادية مُغلقة تدّعي بناء الدولة الديمقراطية، لما نعيشه (الآن هنا) كما عنون منيف روايته المهمّة أيضاً (شرق المتوسط مرة أخرى).

     husenkhalife@hotmail.com

العدد 1105 - 01/5/2024