أزمة البشرية.. أزمة إرادة وليست أزمة معرفة!

سامر منصور:

لعلّ الحروب في سورية وعدد من البلدان العربية أثبتت أن الاستثمار في الذات أهم من الاستثمار بما هو خارجها، بمعنى تعلّم لغات أو حِرَفْ أو مهارات واكتساب معارف هو الأبقى، فلا أحد يستطيع سرقة مهاراتك ومعارفك، ولا أحد يستطيع تقويضها.

وإذا أردنا الحديث عن القراءة والتعلّم والارتقاء بالمعارف ومراكمتها، فهي السبيل الذي اتفق عليه الكثير من الفلاسفة والعلماء لخلاص البشرية من جلِّ مشكلاتها، لكن ما لم ينتبه إليه الفلاسفة والعلماء باعتقادي أن وصول البشرية إلى درجة معيّنة من الموضوعية والوعي هو ليس على سبيل السيرورة بل هو صيرورة، بمعنى أنه يصير كياناً آخر أعلى.

نحن كثيراً ما نصنف الطيور بناءً على ما يتجلى من الفوارق في شيفرتها الوراثية، فلا ننظر ونتعامل مع الّلقلق كما ننظر ونتعامل مع العصفور. ولكون العقل هو العامل الحاسم في تميّز الإنسان عن الحيوان، فإن تفعيل آليات عمله وتمكينه من أداء وظيفته على النحو الأمثل هو تحقيق للكائن الإنساني الذي أزعم أن ولادته عقلية، بينما الجميع يولد بشراً عبر الولادة التقليدية، أي أن الكائن البشري، بزعمي، هو أشبه بالدودة التي تمتلك خيار التحوّل إلى فراشة رشيقة وجميلة ولكنها ليست فراشة، ولا نستطيع معاملتها معاملة الفراشة، كأن نرفعها إلى ذُرا المجتمعات الحديثة ونلقي بها على أزهار الديمقراطية مثلاً.

لو أدركنا جوهر الفارق لما وقعنا في التناقضات التي نعاني منها اليوم، فإغاثة المتضررين من الحروب والكوارث هي عمل إنساني، والربا والمجازر الجماعية وتطوير الفيروسات هي عمل إنساني أيضاً، فلا كائن يمارسها سوى الإنسان، وبالتالي لا يمكن تسميتها إلاّ بالأعمال الإنسانية. أما إذا طبّقنا المبدأ الذي أنادي به فسيصبح لدينا أعمال بشرية وأعمال إنسانية.

وإذا انتقلنا للحديث عن تاريخ نشر المعارف ومحو الأمية، نجد أن هذه المسائل انتشرت بكثرة عند دخولنا عصر الآلة، أي أن الرأسمالية الناشئة ربما هي من ساهم بشكل كبير، أو بمعنى أدق، قادت تأهيل الإنسان وتعليمه إلى حدٍّ ما كي تُستكمل به الآلة، وكي لا يشكل جهله خطراً عليها أو يجعلها خطراً عليه كعامل يمضي جلَّ نهاره معها. ومازال النظام العالمي الذي تتحكم الرأسمالية والقوى ذات المطامح الامبريالية بمفاصله يسعى لتأهيل الأفراد ضمن اختصاصات متنوعة لتلبية متطلبات العمل.

واليوم، المطلوب من الشعوب العربية والإفريقية امتلاك الكفاءة لاستخدام التكنولوجيا، لأن سوق التكنولوجيا يتسع، وفيه استثمارات هائلة، وهم بحاجة المقاربة بين كفتي العرض والطلب. لكن النهج العام والسياسة العميقة للرأسمالية العالمية التي تُعزز العولمة بمنحاها السلبي، وهو تحويل كل شيء إلى قيمة استعماليه قابلة للتداول ومُباحة للجميع، وتَشكُّل الأخلاق والقيم والمبادئ، والتعلّق بالتراث وإحياء المنتجات المحلية تراثية الطابع، تشكّل عوائق وقيود. أما سيرورة المنظومة الرأسمالية العالمية فمرامها تشييء الإنسان، أي أن مآلات الأمور إلى الرجعية ونكسة تُصيب جوهر الحضارات الإنسانية. وإذا أردنا شاهداً، فحال معظم الدول الإفريقية على ما هو عليه منذ زمن العبيد حتى اليوم، فقد أوجدت القيادات الأوربية وسائل سَوق الإفريقي بالأغلال، وجَلده حتى يعمل لخدمة مصالحهم، لكن النتيجة واحدة: إفريقيا بائسة جائعة مريضة منهكة رغم أنها أرض الخيرات والرجال الأشداء، بينما أوربا العجوز، التي تفتقر الكثير من دولها إلى الطاقات البشرية الشّابة، والموارد الطبيعية والزراعية فيها بسيطة مقارنة بإفريقيا، ما زالت تنعم بأفضل الخيرات ويمرض سكانها بالنقرس وتغتال السُّمنة أعمارهم.

العدد 1105 - 01/5/2024