النازحون… قلق على الحاضر وتشاؤم من المستقبل

طفلة بعمر الورد عند استيقاظها من إحدى الزوايا في حدائق دمشق راحت تبحث عن شيء تستر به جسدها لتقضي حاجتها متخفية بين بضعة أعشاب ولوح من الكرتون، حالها حال كثيرين ممن اضطرتهم ظروفهم للنزوح من منازلهم واللجوء إلى بعض المدارس التي فتحت أبوابها لاستقبالهم.

وبات النزوح الداخلي يمثل أحد أصعب التحديات الإنسانية المطروحة اليوم على الساحة السورية، خاصة مع بدء العام الدراسي الجديد. الأمر الذي يعني إخلاء من بقي حياً من ملجئه، ليصبح الشارع الملجأ الوحيد له. فيعود من بقي من التلاميذ في بيوتهم إلى مقاعد التعليم، ويخرج غيرهم إلى مقاعد الحدائق العامة وقوارع الطرقات. ولعل ما تشهده سورية اليوم من أزمة على درجة من العمق والامتداد تمس بها جوهر الوجود الاجتماعي على مستوى الفرد والعائلة والجماعة على حد سواء، لما سببته من نزوح آلاف العائلات من المناطق المشتعلة إلى المناطق الأكثر أمناً.

هناك أسئلة تراود الكثيرين: هل تشكل تجمعات النازحين ضمن المدارس رداً على التحدي الذي يطرحه النزوح الداخلي، أم أنها أصبحت جزءاً من المشكلة؟ وهل تؤدي في الواقع إلى الانجذاب للخدمات المتاحة فيها نظراً لزيادة النزوح وتمديده أو عرقلة الطرق التقليدية المتاحة لمواجهة الأزمات؟ وهل باتت الحدائق حلاً بعد إغلاق المدارس في وجه من اضطر لمغادرة منزله؟

نازحون ولكن؟!

لم تعرف فاطمة أبداً أين هي ذاهبة عند خروجها من منزلها.. حملت أطفالها الأربعة وهربت، نتيجة الحملة العسكرية التي تقوم بها الحكومة السورية لتطهير الريف من المسلحين. وتقول عن تلك اللحظات: (كل ما كنت أفكر فيه إنقاذ أطفالي، ولم أفكر أبداً بالمكان الذي سأقصده).

هربت فاطمة سيراً على قدميها وهي تحمل ابنها الأصغر أحمد ضمن كوكبة من الناس، تسير بسرعة محتمية بأشجار الغوطة، وأطفالها الآخرون يكابدون المشقة في مواكبتها، وبقوا أياماً ثلاثة يسيرون حتى وصلوا إلى إحدى المدارس دون أي من متاعهم الشخصي.

وقد شهدت بعض المناطق في العاصمة دمشق وريفها نزوحاً كبيراً من عائلات بأكملها. فمنهم من قصد أقرباءه أو أصدقاءه بحثاً عن ملجأ، وبعض من ميسوري الحال استأجر منزلاً رغم الأسعار الخيالية بسبب جشع أصحابها، وجزء آخر لم يجد أمامه إلا المدارس والحدائق العامة في المناطق الأكثر أماناً، حيث فتحت بعض المدارس لاستقبال العوائل النازحة، وذلك لصعوبة إيجاد أماكن لهذه الأعداد الكبيرة التي باتت تفترش الطرقات والحدائق.

حركة النزوح رافقها نشاط في العمل الخيري بشقيه المنظم والتطوعي، وقد نشط عدد من اللجان الشعبية، وهب البعض لمد يد العون والمساعدة، متناسين كل شي، رافعين شعار (إخوة بالإنسانية).

بين المشاكل والحلول

وعن الحلول التي قُدِّمت للوزارات والجهات المعنية قالت إحدى الناشطات في مجال الإغاثة: (قدمنا العديد من الاقتراحات، ولكنها جوبهت بالرفض، ومنها فتح الملاجئ المعدة مسبقاً حسب اتفاقية التجارة الحرة، واقتراح بتجهيز الملاعب أو الجامعات كبدائل، وآخر طَرْح قُدّم إشغال الفنادق الفارغة الموجودة على أن تتكفل الدولة بنسبة تدفعها). وتابعت قائلة: (هناك إصرار على افتتاح المدارس في موعدها على الرغم من حالة البلد غير الاعتيادية، ونحن واثقون من عدم قدرة الدولة على الإيفاء بوعودها وتأمين المأوى المناسب للجميع، الأمر الذي سيؤدي لانتشار الناس في الشوارع لعدم قدرتهم على العودة إلى بيوتهم، إما لأسباب أمنية أو لتدميرها).

وشككت الناشطة من التمكن في هذا الوقت القليل من تجهيز المدارس لاستقبال التلاميذ، وتساءلت: (حسب الإحصائيات الموجودة هناك 2000 مدرسة متضررة يلزمها إصلاحات، وأكثر من 350 ألف نازح موجودون في المدارس، فكيف ستفتح المدارس في الموعد المحدّد؟!)

وأكدت أن الحدائق والطرقات ليست حلاً إنسانياً، وستترك أثراً عليهم، حتى بعض الحالات ضمن المدرسة كان لها تأثير نفسي كبير على الجميع وخاصة النساء. وقالت: (كيف تتوقع حال الأم التي تضع مولودها في المدرسة؟).

وعن المشاكل التي واجهوها ضمن المدارس قالت: (اضطررنا، بسبب عدد النازحين الكبير في المدارس، إلى وضع أكثر من عائلة بكل صف، وسعينا ليكونوا متقاربين، ولكن المشكلة الأكبر كانت بفصل العائلات أثناء النوم، وفصل الرجال عن النساء، لكن جهودنا لم تمنع المشاكل فيما بينهم، خاصة أنهم حساسون لوضعهم الحالي، وعلى الأخص الأشخاص ذوو الوضع المادي والاجتماعي الجيد، والذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها في الطرقات خالي الوفاض. وعند التعامل مع النازحين في الحدائق كانوا يقولون إنهم يفضلون البقاء تحت الأشجار على الدخول إلى المدارس، إما لأسباب أمنية أو نفسية. وعدد هؤلاء يزداد يومياً وبعيداً عن المجمعات المزودة بمرافق الرعاية الصحية والخدمات الطبية المقبولة في الحدود الدنيا، وعن نظم توزيع الأغذية وإمدادات المياه وتوفير الأمن والمأوى وذلك بعد البدء بإخلاء المدارس).

وعن اقتراحها لحل المشكلة على المدى القريب قالت: (لدينا العديد من المجمعات السكنية، ومنها أبنية غير مسكونة، أقترح إعداد دراسة لتأمين النازحين فيها وإلا فسنشهد رد فعل قوياً ممن فقد كل شيء ووجد نفسه في النهاية ينام على قارعة الطريق، وعندئذ ستكون الكارثة العظمى. فليس الحل بإصرارنا على التمسك بقراراتنا، جميعنا يريد أن يتعلم أطفالنا ولكن نريدهم أن يعيشوا بكرامة في بيئة تتسم بالإنسانية أولاً، ولن نستبعد شيئاً بعد تشرد الناس في الطرقات، كارتفاع منسوب الجريمة سعياً من البعض لحماية أطفالهم وتأمين مكان لهم)، موضحة أن الحلول هذه مؤقتة ريثما تنتهي الأزمة الإنسانية التي يعانيها أبناء سورية.

انعكاسات صحية

وعن الأثر الصحي على النازحين قال الطبيب (مؤنس طلب) الاختصاصي بأمراض الأنف والأذن والحنجرة: (بدأ التأثير التراكمي لفشل الناس في الحصول على الضروريات الأساسية للحياة، وفيها الغذاء والمياه النظيفة في بعض المناطق والرعاية الصحية، واشتداد حدة التعرض للمخاطر الصحية بسبب إقامتهم في أماكن مكتظة، ومحدودة الحصول على الرعاية الصحية والخدمات الأساسية، الأمر الذي ينتج منه سرعة انتقال العدوى وانتشار الأمراض السارية، كأمراض الطرق التنفسية العليا كالرشح وغيره، إضافة إلى الأمراض التحسسية بسبب تغير الظروف المكانية للنازحين، ناهيك بانتشار الأمراض الجلدية الناجمة عن الاشتراك في الخدمات والأدوات والملابس أحياناً. ومن جهة أخرى سوء المعاملة وفقدان الممتلكات وتزايد خطر تمزق العائلات، وانفصال الأطفال عن سائر أفراد الأسرة، وتزايد خطر تعرض النساء والفتيات للعنف الجنسي وما يصاحب كل ذلك من أمراض نفسية ومشاكل اجتماعية).

النزوح… (المجتمع الجديد)

على امتداد العصور بقي تغير المجتمعات مرهوناً إلى حد كبير بالأزمات والثورات والكوارث، التي أدت إلى زلزلة في البناء الاجتماعي على مختلف أنساقه، إضافة إلى إحداث قطيعة مع ما قبلها من طريقة وأسلوب للحياة، وذلك نتيجة لغياب حال الاستقرار، الأمر الذي يفرض نشوء جملة من العادات والقيم والتقاليد أكثر تكيفاً مع مستجدات الوضع القائم.

وفي ظل الأزمة الحالية التي يشهدها مجتمعنا يكمن الأثر الأكبر الذي يمكن الحديث عنه في مجموع الضغوط النفسية الناتجة عن غياب حال الأمن النفسي والاستقرار وظهور حال من الهلع الجمعي ترفع من مستويات القلق العام تجاه ما سيحدث، ويصبح السؤال: (ما الذي سيحل بي وبعائلتي؟) المسيطر على الذهن الجمعي، يضاف إلى ذلك مجموعة الحاجات الأساسية (المأكل والمشرب والخدمات الطبية) ومدى توفُّرها للأطفال على وجه الخصوص.

أثر الضغط النفسي على المجتمع المحلي

تغييرات في الأنظمة الاجتماعية.

انتشار حال من التوتر وانعدام الثقة والفزع وعدم الاطمئنان والقلق الجمعي.

تغييرات قيمية وفي المعتقدات، نتيجة تصدع نظام المعتقدات السابق.

غياب (قادة المجتمع) الذين يتمتعون بالاحترام.

ارتفاع مستوى العنف وتعدد أشكال التعبير عنه يصل إلى حد العداء الاجتماعي وفقدان الثقة بالآخر.

وما يجدر ذكره ألا نستغرب إذا قلنا: إننا اليوم أمام مشروع بناء مجتمع جديد، وطريقة التعامل مع أزمة النزوح هي التي توجهنا في مشروع البناء هذا.

الفرد … وقلق الانفصال

تشكل الضغوط النفسية المرافقة لحال النزوح تربة خصبة لتنامي الأمراض النفسية وتفاقمها وحتى ظهورها، والأزمات كعادتها تسهم في جعل المكبوت يطفو على السطح. وفي حالات النزوح والانفصال عن المجتمع نصبح أمام غياب لشبكات الدعم الاجتماعي التي يقوم بها أعضاء المجتمع المحلي. يضاف إلى ذلك فقدان الخصوصية، يليه شعور الإنسان النازح بفقدان شيء من كرامته ليصبح المصدر الأول لارتفاع مستوى الضغط والتوتر النفسي، إذ يمثل المجتمع المحلي الحاضنة الاجتماعية والنفسية للفرد: (الانتماء، والمشاركة، والقيم، والهوية، والعادات،.. إلخ) ومن ثم يحافظ استقرار المجتمع على استقرار الفرد وتوازنه وأمنه النفسي.

جملة الآثار النفسية للفرد في وضع النزوح

ارتفاع معدل نوبات الغضب وسهولة استثارة الفرد (على نحو مبرر أو بدونه).

ارتفاع مستوى القلق تجاه المستقبل وما يحدث.

توتر وضغط نفسي مستمر.

شكاوى جسدية ذات مصدر نفسي (غير مفسرة طبياً)، تنتشر لدى النساء أكثر منها لدى الرجال، مثل الصداع، أو آلام أسفل البطن، أو تشنجات مَعدِية..

ارتفاع معدل العنف والعدائية لدى الأفراد.

وهناك عدد من التوصيات يمكن الأخذ بها للمساهمة في تخفيف الأثر، منها:

أن يحافظ أفراد العائلة الواحدة على البقاء معاً لما له من أثر نفسي داعم. يضاف إلى ذلك تلافي القلق الناجم عن التغييب عن العائلة.

المحافظة على مستوى معين من الترفيه كالخروج بعيداً عن أمكنة التجمع.

الحفاظ على روتين يومي للعائلة والأطفال قد يساهم في تعزيز مستوى من الاستقرار.

تحفيز المشاركة الاجتماعية مثل (صبحيات النساء، وسهرات سمر، والمشاركة في أعمال التنظيف وإعداد الطعام)، يمكن أن تؤدي دوراً في التفريغ النفسي أو حتى المشاركة الوجدانية لأناس لهم الوضع ذاته، وترفع من مستويات المقاومة النفسية للفرد.

مع تأكيد أن النازحين هم الفئة الأكثر تضرراً من الأزمة السورية، إذ يتعذر عليهم الحصول على الغذاء بسبب افتقارهم للقوة الشرائية، ولعدم وصول المساعدات إليهم أو استيلاء البعض عليها، وبعيداً عن معظم العاملين في المجال الإنساني، خاصة في الحدائق والساحات يسعى أشد الناس استضعافاً إلى تدبر أمورهم بأنفسهم.

وتكشف قضية النازحين عن احتياجاتهم على المدى القصير والمتوسط والطويل، ابتداءً من الغذاء والماء والمأوى والأمن وانتهاء بالرعاية الصحية والتعليم والتأهيل الاقتصادي والاجتماعي، وتبين أيضاً ضرورة تأمين الحماية جنباً إلى جنب مع توفير المساعدات حتى يكون العمل الإنساني فعالاً.

 

تحقيق: رنا النبكي ــ علاء أوسي

العدد 1105 - 01/5/2024