مشاهد لوطني

يظهر ذاك الشيخ الجليل بعينين دامعتين، وقلب حزين، وجبين بخطوط العمر، رافضاً أن يخرج من حيّه، وطنه الصغير. ذلك الوطن الذي عاش طفولته فيه، وكبر فيه وعاش الياسمين والحب والذكريات. كتب اسمه على شجرة ما هناك مع حبيبة له، كان يتذكّر تلك القابلة التي ساعدت في إنجاب طفله الأول، وهو يسمع صوت والدته في ذلك البيت الدمشقي القديم مزغرداً… الآن يسمع ضحكات الأطفال في شوارع الياسمين وهم يلعبون ويركضون متناسين أصوات الموت ورائحة القنابل. فكيف يستطيع الرحيل؟ كيف يترك دمشق الحنون لأنها تعبة، كيف يتركها في مرضها لأنه مريض؟ يريد أن يموت فيها كما عاش فيها وعاشت فيه.

وتلك المرأة التي صرخت بفرح عند ولادتها لابنها، ها هي ذي تعاود الصراخ وهي تودعه بدمائه وجراحه وآهاته.. صرخت عليه كثيراً في الأمس لئلا يفكر في الخروج، لم يسمع صراخها ولا خوف قلبها.. تركها تتكلم وذهب ليواجه ذاك المصير. تركها تستقبله مندهشة والهرم يتزايد كل لحظة مع كل نظرة وداع. لحقت به إلى غرفته وهو متمدد، عانقته، وكلمته، وعاتبته، وبكته… وفي اليوم التالي زفته عريساً في خيالها، ناثرة الورود فوق جبينه العالي. والحقيقة المرّة تطالبها بزفّ شهادته المجيدة، لمثواه الأخير، بسبب قلبٍ تحجّر ونسي أنّ قلب أم الشهيد صار شهيداً ومظلوماً ومقهوراً وتائهاً.

إلى متى سننسى تلك الأمّ؟ وكم من أمٍّ بكت وانتحبت؟ ألم يُقلْ بأن (الجّنة تحت أقدام الأمّهات)؟ فماذا إذاً ؟ وأنت، ألم تسمع أغنيةً تصدح بكلماتٍ تقول: (أعشق عمري، لأني إذا متُّ أخجل من دمع أمي).نعم، في سبيلها أنا مستعدة لأن أبعد الضر عني، لأجل عينيها ودمعها أحافظ على كل نَفَس لي. سأعشق الحياة لأجلها، وأحب نفسي لنفسها، وأرحم عمري لسعادتها. سأعمل، وأدرس، وأنجح، وأتقدم لأجلك أمي… أمي وأمي سورية.. كلتاكما تستحقان مني أن أُسعدها لا أبكيها، أن أُكمل نسلها لا أقتلها.

أعلم أن عمري يمدّ بعمرك… مستقبلي يخطو خطوة لمستقبلك.. ياسمينك سيكون عطري لحياة سورية الحنونة.. فمستقبل سورية بأولادها الأحياء.

العدد 1105 - 01/5/2024