منتصف الليل في باريس… الحياة حلم أم العكس؟

قال أحدهم ذات حلم: (هذه الحياة حُلم، والحلم ليس أكثر من حلم…)، فهل نعيش أحلامنا حقاً.. أم هي التي تعيشنا..؟

هل رتابة ما حولنا تحفّز دوافع يقظتنا نحو عيش أمانينا وأحلامها..؟

و إذا كانت الساحرة تسمح لسندريلا الأساطير، عيش حلمها حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، فإن الساحرة في العمل الجديد للمخرج المتميز وودي آلن، الذي يتابع جولته الأوربية على أجمل مدن العالم، وهي باريس، تقدم لك حلمك على طبقٍ طعمه الفن والأدب، وبعد أن تدق الساعة معلنةً حلول منتصف الليل هذه المرة.

يفتتح فيلم افتتاح مهرجان كان السينمائي في دورته الرابعة والستين، مشاهده بلقطاتٍ رائعةٍ لمدينة الأحلام والرومانسية باريس في وضح النهار لتطولها الكاميرا، متنقلة ما بين مناظرها الطبيعية ومتاحفها الشهيرة وشوارعها، وكل ما يلفظ بنفس عشق الحياة فيها، وأيضاً أثناء هطول المطر، مع موسيقا جميلة تبشّر بمضمون عمل جديد كليّةً لهذا المخرج، يبتعد فيه هذه المرة عن الحدّة المباشرة أو الخفية. فما سنشاهده ويتعرض له هذا الفيلم، يلامس التوق الأكبر لدى عامة البشر، وهو الحنين للحلم والرغبة في تحقيقه ضمن إطار خفيف هادئ.

فجيل وخطيبته يتنقلان لقضاء عطلة ما قبل عقد قرانهما في باريس، ومن البداية يلاحظ المشاهد أن علاقتهما ليست على وتيرة انسجام لطالما كانا يرومانه من راحة نفسية وعاطفية. تلك العلاقة على العكس مما يجب أن تكون، تشوبها الاضطرابات المتواترة ما بين رغباتهما واهتماماتهما. ومن يتابع أفلام وودي آلن يلاحظ الرغبة الشديدة عنده في التركيز على هذا النمط من الأفكار، مع حُلّة جديدة في كل فيلم، وهو الأمر الذي دعا البعض لاتهامه بأنه يكرر الموضوع ذاته في كل عمل. جيل كاتبٌ مبتدئ في طور إنجاز روايته الأولى، ويتمنى لو أنه كان يعيش في هذه المدينة الرائعة في فترة ما بين الحربين العالميتين، برومانسيتها وأجوائها الساحرة، ويعشق المشي تحت المطر.

إنيز تنتمي إلى أسرة ثرية، وبعيدة كل البعد عن تطلعات خطيبها الحالمة، ولا تستطيع الاستقرار خارج مدينتها نيويورك، ليس لديها اهتمامات إلا بالتسوق والرتابة المملة لأمثالها وعائلتها من الأسر الثريّة، سوى زيارة المعارض والملاهي للرقص والمرح. يزداد الأمر بينهما سوءاً بعد أن تلتقي بصديقتها وزوجها، وينمو في تربة لقاءاتهما إعجاب متبادل وخفي.

وفي واحدة من ليالي باريس الهادئة، وعوضاً عن مرافقة جيل لخطيبته وصديقيها للرقص والسهر، يتهادى جيل ماشياً في أزقة المدينة، وبعد أن تدق الساعة معلنةً حلول منتصف الليل وأولى مغامرات السحر، ليجد نفسه وقد توقفت أمامه عربة يدعوه راكبوها لمشاركتهم سهرتهم وتجوالهم بين ملاهي ومربعات السهر في مدينته الحُلم، ليكتشف أنه انتقل لفترة بالكاد كانت ترفع راية بيضاء لمخيلته. لا بل أكثر من ذلك ليكون أحد الساهرين في حفلة راعيها الشاعر والفنان الفرنسي الشهير جون كوكتو، يعجّ صالونها برواد الفن والفكر والأدب. فيلتقي بإرنست همنغواي، والروائي الأمريكي الذائع الشهرة سكوت فيتزجيرالد، وسلفادور دالي،كما يلتقي ببابلو بيكاسو أثناء قيامه برسم إحدى لوحاته الشهيرة، وغيرهم الكثيرين من الفرنسيين والأمريكيين ممن كانوا أعلاماً في تلك الحقبة الحافلة بالازدهار الأروع على الصعيد الثقافي والفني. وبعد أن جلس إلى جانب تي إس إليوت في العربة، لا بل أكثر من ذلك إذ يتاح له فرصة تقديم روايته لواحدة من أشهر أديبات ذلك العصر جرترود شتاين.

يبتعد وودي آلن عن جميع التفسيرات المملّة، أو أيّة حجج ممنهجة ومنطقية، حول كيفية الانتقال بين فترة زمنية وأخرى، وخصوصاً أنها لا تخدم موضوع الفيلم، من حيث ملامسته لعميق المشاعر بطريقة لطيفة وناعمة للغاية، بل استعاض عن ذلك بإغناء فيلمه بحوار مميز يعدّ عصباً قوياً في فيلمه هذا كما كل أفلامه. فهو ليس من الأفلام الدرامية الجادة، ولا الكوميديا الخالصة، بل مزيج هادئ هادف ما بين الاثنين، والسرد الدرامي للحكاية، تارةً يكون أقرب إلى الخيال من حيث انسجامنا جميعاً في وحدتنا مع أحلام يقظتنا، وتارةً أخرى تراه أقرب إلى الواقع، وهذا ما أعطى الفيلم طابعاً خفيفاً، وحتى ممتعاً وسهلاً. والمتابع الشغف لأفلام وودي آلن يلاحظ ولع هذا المخرج بالحوار وبالعلاقات الإنسانية وما يشوبها من اضطرابات تصل إلى حد التعقيد أحياناً وأيضاً إلى حد الجدية في معالجة أزماتها أو انتفاء الحلول معها، حتى أن ذلك قد لوحظ في تكرار نفس الشخصيات الشكلية مع تنوع خصب في المضمون. وعلى سبيل المثال نرى أن جيل الكاتب وسعيه لإنهاء روايته الأولى، مشابه لشخصية جوش برولين الكاتب التائه في دوامة النجاح في فيلمه (سوف تقابل رجلاً طويلاً أسمر)، وكذلك الأمر بين إنيز وشخصية ريبيكا هال في فيلمه (فيكي كريستينا برشلونة) من حيث اهتماماتهم وانتماؤهم للأسر الثرية. كما أنه ركز على الشخصية الرئيسية في هذا العمل وهي جيل على عكس فيلمه السابق، إذ كانت كل شخصية فيه مشروع عمل منفرد، واستُعيض عن ذلك بشخصيات مشهورة تكاد تشكل لكل متابع حقبة بأسرها لا لعمل فحسب، وإنما للكثير من الأعمال.

أدار المخرج في هذا العمل أيضاً زوجة الرئيس الفرنسي السابق (كارلا بروني)، بدور موظفة المتحف ودليلته الثقافية في ظهورها السينمائي العالمي الأول، وأيضاً الممثلة الجميلة (ماريون كوتيارد) بدور أدريانا إذ تخاطب حلم جيل بطريقتها معبرةً عن محبتها لباريس، وأنها كانت أجمل بكثير في أواخر القرن التاسع عشر مما هي عليه في هذه الحقبة، إذ انتقل زمنياً دون وعي منه لذلك. (منتصف الليل في باريس) فيلم قام وودي آلن بكتابته وإخراجه، على غرار ما قام به في الكثير من أفلامه السابقة، من حيث أنه كتب وأخرج، ونال عنه أوسكار أفضل نص أصلي، كما ترشح أيضاً في مهرجان الأوسكار ذاته ضمن فئة أفضل فيلم، وأفضل مخرج، وقد كان اللافت أيضاً في هذا العمل، أداء أوين ويلسون المتميز، رغم الكم الهائل من الانتقادات الموجهة إليه والأحكام المسبقة بالنظر إلى أدواره السابقة. إلا أن من يراقب التوجه السينمائي والحياتي للمخرج وودي آلن، يدرك تماماً أن ما قام به ويلسون، يبدو كما لو أنه تقمص حقيقي لشخصية المخرج، أي أن وودي قد أسبغ ذاته وأحلامه لا بل تصرفاته وحركاته الحياتية والجسدية أيضاً على هذا الدور. وقد أتقنه ويلسون لدرجة أن المشاهد يعي أن أداءه ما هو إلا ترجمة لرغبة المخرج وحلمه، وقد تعداه أيضاً إلى إتقانه لطبيعة حركات وودي آلن الجسدية وإيماءاته.

 الفيلم بكل بساطة فيه نزوع نحو التوق للأصالة، وتعبير يكاد يكون أكثر وضوحاً عن رغبة ما بالعيش في زمن مضى، وتلميح لا يخلو من تهكّم من سطوة الحداثة، مع طرحه لتساؤلٍ حول كيفية تعاملنا مع الأحلام، هل نعيشها كما نحلمها، أم نعيشها كما هي مرسومة لنا، على غفلة من استدراج القدر نحونا؟

العدد 1105 - 01/5/2024