ثقافة الإقصاء… الإقصاء الثقافي… توصيف الظاهرة

في الدلالة اللغوية نقول أقصاه أي (أبعده) عن المكان، عن الموقع، عن العمل، عن المشاركة، عن الحضور، عن الممارسة.. إلخ، فهناك (مقصى) وجهات تقصيه، وتبعده، أو تهمشه بنسبة أو أخرى، والإقصاء بالبعد هو نوع من (الإلغاء) للمقصى، أكان كاتباً أم مفكراً أم سياسياً، أم وجهاً اجتماعياً، أم كفاءة إدارية، أم سياسياً متقدماً وفاعلاً ومؤثراً.. فيقصى لتبقى الساحة لمن أقصاه نفعاً، وفائدة، وحضوراً، ونفياً.. بالتالي لمن لا يوافق، ويمتثل، ويلبي ما يريده صاحب القرار، أو القدرة على الإقصاء.

والإقصاء في التصنيف النوعي يكون: إقصاء سياسياً، أو فكرياً، أو دينياً، أو إدارياً.. إلخ. والأخطر هو إقصاء الكفاءات، والقادرين ليؤتى بالوسط، وتحته، وغير القادرين.

الإقصاء في الأساس (عمل نفعي) للجهة القائمة به، قاعدته (مصلحة الأنا الفردي) أو مجموعة النفع، والاستفادة، والتسيد، والامتياز كي لا يأتي من ينافسها، أو يشاركها الفائدة، أو يكشف زيفها، ودواخل ما تفعله. ودائماً يتم ذلك على حساب المصلحة العامة، وأين تكون، وكم من فئات قادرة، وكفؤة أقصيت، وهمشت ليبقى تسيد المستفيدين، وشللهم ومنافهم، وما يريدون.

الطبيعة الإنسانية غرائزياً تميل إلى (الأنا الفردي)، والمصالح الذاتية، ورغبة النفع، ولا تميل في الأساس إلى (الأنا الجمعي)، والمصلحة العامة وأين تكون. لكن يأتي منطق قيام الدولة، ومؤسساتها، وبنائها، وعقدها الدستوري، والقانوني ليضبط إيقاع الفردية، والنفعية، وليقيم التوازن المشروع بين مصلحة الشعب، ومنطق قيام الدولة، وبين الفرد ومصالحه عبر القاعدة المعروفة (الحقوق، والواجبات)، وبقدر ما تنتصر العدالة، والشفافية، والنقد، والتصويب، والمراجعة، والمراقبة، يحصل هذا التوازن باتجاه إنتاج (دولة المواطنة)، وعناصرها في الحرية، والتعبير، والمشاركة، والعدالة الاجتماعية.

قد يُقصى أفراد أو جماعات بخلفيات اجتماعية: دينية، أو عنصرية، أو سياسية، أو إيديولوجية، وبالتالي يحصل التهميش لمجتمعات، وثقافات، وطاقات، وقدرات.

وتعيش هذه الفئات ظاهرة (التهميش) والانغلاق، والحقد، وتتحين الفرص عندما تضعف قوة الدّولة بسبب أو آخر ليحصل التمرد، ورد الفعل على عوامل الإقصاء، والتهميش..

وتحصل مواجهات، وحروب، وانقسامات، وغيرها.

في الإقصاء الفكري، والثقافي قد تغيب قامات فكرية، وأدبية، ويتصدر المشهد أنصاف، وأرباع المثقفين ، ويبرزون أنهم نجوم عبر الإعلام، والشاشات، وغير ذلك من وسائل النجومية، و تكال المدائح، ويتم تبادلها.. ويحصل نوع من (الرضا الزائف) أن هذا هو الصحيح والحقيقة، والحقيقة غير ذلك .

إن الكثير من (الجوائز والتكريمات)، ومن يقوم بها تخضع لعلاقات، ومصالح، وتتم عبر أفراد، وما يريدون، وقد لا تضبطها معايير(موضوعية تقويمية) فتعطى لأناس، وهناك من هو أهم وأجدر منهم، فيقصى (المستحق) والمتقدم، ويكرم الأقل والأدنى.

من عوامل الإقصاء ما نسميه (عداوة الكار) فنجد فئات مهنية: مهندسين- أطباء- محامين وغيرهم، كل يحاول إقصاء الآخر، والنيل منه. والقاعدة هنا هي الفائدة والمصلحة، وتستخدم فيها أساليب لا أخلاقية، ودعايات، واتهامات، وغيرها، تصل إلى حد حرب مهنية بين مجموعات (الكار الواحد).

هناك (إقصاء ثقافي) يحصل بسبب ما نسميه ثقافة (التغريب)، فالكثير ممن درس في الغرب الأوربي، وتأثر بفكره، وحضارته، وأخذ بها، وعاد إلى وطنه أصبح ينظر نظرة (دونية) إلى ثقافة بلده، وتاريخها، وأعلامها، ولا يعترف حتى بالجيد والأصيل فيها، ويتحدث عن ضعفها ودونيتها، ويروج لما رآه في الغرب، ولما أعجب به، واعتبره المثل الأعلى.

وبدل أن يستفيد من (المناهج الغربية) في دراسة فكر بلده وثقافته وتطوير ذلك وإجلائه، يتحدث عن ضرورة القطيعة مع هذا الفكر، والأخذ بأسباب الحداثة الغربية ما لها، وما عليها، فيحصل لديه ولدى من يؤثر فيهم (إقصاء) للفكر الوطني، ولتاريخ الأمة، ولما هو إيجابي فيه.

قد يحصل نوع من (الإقصاء الذاتي) لدى البعض الفكري، أو الثقافي، أو السياسي يأساً أو زهداً، فينكفئون، ويبتعدون ويعتزلون، ويخسر الوطن والمجتمع ما لديهم، ولا من يبادر ليسألهم ويستدعيهم.

يقول المثل الحكمي: (عقل المرء محسوب عليه) فثمن (التميز، والإبداع) دفعه الكثيرون غيرةً، والشجرة العالية والمثمرة ترمى بالحجارة، وكم من القامات المتميزة في تاريخنا من ابن الرشد  صاحب المدرسة العقلية، إلى أبي حيان التوحيدي، إلى فكر الاعتزال واشتغاله العقلي، إلى المتنبي وحكمته، إلى طه حسين، كل هؤلاء دفعوا ثمن تميزهم، واستثنائيتهم في مجتمعات ودول لا تقدر (التميز)، و(الاستثناء).

في المجتمعات الاستهلاكية ينظر إلى الأغنياء وما يملكون، ولا ينظر إلى الفكر والثقافة، وتحل الحاجات والاستهلاك واليومي والترفيهي، بدل الفكري والثقافي، فيقصى الفكري والثقافي، ويعمم الاستهلاكي واليومي.

إنّ (الإقصائية، والإلغائية) ثقافة قائمة بالمعنى السلبي في حياتنا المجتمعية العربية، وهي جزء من تعثر نهوضنا، وبنائنا، ومعالجتها أمر يحتاج إلى الكثير، ويقتضي مقالة أخرى.

العدد 1105 - 01/5/2024