متى يتنحى العرف أمام القانون؟

من المعلوم جيداً أن مجتمعات الشرق العربي والإسلامي تخضع لقانون العرف والدين أكثر مما تخضع للقانون المدني أو الوضعي، وهذا ما يجعلها ماضية في الشكل القبلي في مجمل علاقاتها(الاجتماعية والسياسية والاقتصادية و… إلخ) ذلك الشكل الذي ساد زمناً غير قصير، إلى أن جاء زمن الاستعمار الذي أدخل بعض المفاهيم عن شكل الدولة وأسسها ونظامها، إضافة إلى الحركات التنويرية والإصلاحية في معظم هذه الدول، مما أدى إلى بدء التلاشي الظاهري للعلاقات القبلية في المجتمع( مع بقائها ضمنياً)، إذ حلّت الأسرة الكبيرة أولاً، ومن ثمّ تقلّصت إلى نواة الأسرة المكونة من الأبوين والأبناء فقط.

ولكن رغم كل التغييرات المذكورة، فإن الاحتكام في حل النزاعات والخلافات بقي في كثير من الأحيان تحت مظلة الأعراف القبلية والدينية أكثر مما هو للقوانين الوضعية التي شرّعتها الأنظمة الحديثة في تلك البلدان. وعزز هذا الوضع أن تلك الأنظمة اعتمدت في دساتيرها الفقه الإسلامي مصدراً للتشريع إلى جانب القوانين الوضعية التي تحكم حياة الناس.

فالتشريع الديني يدخل في صلب العلاقات الإنسانية والاجتماعية في معظم هذه البلدان، لاسيما ما يتصل منها بالعلاقات الأسرية، أي قانون الأحوال الشخصية، الذي ينظم علاقات الزواج والطلاق والإرث والنفقة و… جميع المسائل ذات الصلة. وبالتالي فإن التغييرات الطارئة على تلك المجتمعات لم تنعكس على ممارسات الناس على نحو يتماهى مع تلك التطورات، كخروج المرأة للعلم والعمل والحياة العامة خارج جدران البيت، إذ أصبحت شريكة للرجل في تقاسم مسؤوليات الحياة والأسرة كاملةً. هذا الوضع الجديد الذي يستدعي وجود قوانين متطورة ترتقي إلى ما وصل إليه المجتمع، لأن التشريعات الدينية التي سُنّت منذ قرون لم تعد مناسبة لإنسان العصر الحديث وعلاقاته الجديدة بمجمل محيطه العام.

ولكن علينا ألاّ نتجاهل أن القوانين الوضعية أيضاً حملت روح التشريع الديني من حيث النظرة إلى المرأة والتعامل معها في أروقة القضاء والقوانين، أي أن أغلب تلك القوانين هي قوانين تمييزية ضد المرأة لصالح الذهنية الذكورية في المجتمع. ولا غرابة في ذلك لأن من يسن تلك القوانين هم رجال القبيلة ذاتها الذين يحملون في نسغ تكوينهم تلك المفاهيم والأعراف التي تتدخل تدخلاً مباشراً وغير مباشر أثناء صياغتهم للقوانين المدنية.

من هنا نجد أن التغييرات التي تطول بعض القوانين ستأخذ وقتاً ليس بالقصير حتى تتجذّر في أذهان الناس وممارساتهم اليومية، باعتبارها وافدة على ما تعارفوا عليه في الحياة المجتمعية. وهذا ما يتضح تماماً في ما يُعرف بجرائم الشرف مثلاً، تلك الجرائم الذي وقف ضدها كل نشطاء المجتمع ومثقفيه. وبعد جدال وحملات مناهضة لها جاء المرسوم 37 لعام 2009 الذي عدّل المادة 548 ورفع عقوبة القاتل في جرائم الشرف إلى الحبس سنتين… ولكن ما الذي حصل..؟ جاء المرسوم رقم 1 للعام 2011 والذي تشدد أكثر في عقوبة مرتكبي جرائم الشرف، وجعلها ما بين 5و7 سنوات سجن. فهل بإمكاننا فتح أفق الأمل في خفض عدد جرائم الشرف بعد ذلك..؟

تلك الجرائم التي أدانتها كل الأديان، وأفاض رجال الدين في الحديث عنها، ووجوب رفضها رفضاً قاطعاً. لكن ما الذي حصل..؟ هل انخفضت نسبة هذه الجرائم..؟ هل أخذ الناس بآراء رجال الدين رغم رسوخ ما يقوله هؤلاء الرجال في حياة الناس بجوانب أخرى..؟ هل امتثل الناس لآراء ومناشدات رجال الدين برفض تلك الجرائم، واعتبارها قتل نفس حرّم الله قتلها بغير حق..؟ لماذا لم تُجدِ الوسائل المذكورة نفعاً في قمع تلك الظاهرة..؟

بالطبع لن تجدي نفعاً لعدة أسباب أهمها:

– سيادة العرف على كل القوانين الدينية أحياناً، والوضعية دائماً، بسبب الذهنية السائدة في نسغ التفكير المجتمعي والتشريعي منذ قرون.

– لأن رجال الدين يحملون ذات الذهنية الذكورية تجاه المرأة والتعامل معها، وإلاّ اتبعوا سياسة التحريم ضدّ مرتكبي هذه الجرائم، كما يتبعونها في أمور أخرى، كتحريم الخمر والربا وما شابه من أمور حرّمها الدين، وعزز هذا التحريم رجال الدين في أحاديثهم وخطبهم الدائمة. وبالتالي لقي ويلقى هذا التحريم الاستجابة القوية من المجتمع، بعكس القتل بدافع الشرف الذي يصمّون آذانهم ويشيحون ببصرهم وفكرهم عنه.

-تعزيز بعض القوانين للعرف في معالجة ما يعترضها من قضايا، وهذا ما هو وارد في في القانون المدني السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 84 تاريخ 18/5/1949 المادة1 الفقرة 2 التي تقول: (فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد، فبمقتضى العرف، وإذا لم يوجد، فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة).

وكذلك قانون الأحوال الشخصية السوري الذي اعتمد العرف في قبول الزواج مثلاً في مادته السادسة التي تنص على: (يكون الإيجاب والقبول في الزواج بالألفاظ التي تفيد معناه لغة أو عرفاً).

وكذلك في المادة55 من القانون ذاته التي تنص على: (يجوز تعجيل المهر أو تأجيله كلاً أو بعضاً، وعند عدم النص يتبع العرف).

– قصر مدة الحبس في القوانين المدنية، وبالتالي لا تُعدّ رادعاً قوياً يستحق الوقوف عنده، إضافة إلى الثغرات الموجودة في تلك القوانين، والتي يَنْفذُ من خلالها بعض القضاة أصحاب الذهنية المضادّة لقضايا المرأة وحقوقها العامة، كالمادة192 وسواها من مواد مشابهة في قانون العقوبات والتي يجب إلغاؤها فوراً، وليس فقط الاكتفاء بتعديل المادة 548 ورفع مدة السجن إلى خمس أو سبع سنوات.

إن التعديلات التي طالت مؤخراً بعض القوانين (الدينية والمدنية) هي خطوة أولى (لكنها ناقصة) في إحداث التغيير المنشود اجتماعياً لصالح المرأة والكثير من قضاياها العالقة، لاسيما فيما يخص جرائم الشرف. غير أنه مهما ارتقت تلك التعديلات والتغييرات في هذه القوانين، لا تصل إلى مستوى ما يضمنه قانون مدني عصري شامل لجميع مناحي العلاقات الاجتماعية والأسرية. لذا نأمل أن لا يطول الزمن حتى نصل إلى التعامل في هذه الأمور بقوانين مدنية تعزز مبدأ المواطنة والمساواة وفق ما ينص الدستور وعلمانية الدولة. كما نأمل أن نصل إلى قانون أسرة عصري يواكب المتغيّرات الاجتماعية على جميع المستويات، ولاسيما ما يخص قضايا حقوق المرأة بما كفله الدستور والاتفاقيات الدولية ذات الصلة.

العدد 1104 - 24/4/2024