إنسانيتنا الكاذبة

حين يعجز العقل السوي عن استيعاب سيل الأحداث والوقائع الذي يجتاح كيانه، يرتد تلقائياً إلى ممارسة نوع من إعادة التقييم لمخزونه المعرفي والفكري الذي خذله في تفسير ما ألم به من وقائع جسام، وكلّ عن إدراك أسبابها وعللها.

هذا حال معظمنا اليوم إزاء ما نراه من مشاهد رهيبة تقشعر لها الأبدان كنا حتى الأمس القريب تتقزز من مجرد مشاهدة أمثالها عرضاً في أفلام الرعب والإثارة. وقد تنتابنا الكوابيس بسببها رغم علمنا بأنها مجرد خدع سينمائية لا أكثر، مشاهد الدم والأشلاء والذبح وتقطيع الأوصال هذه قفزت بغتة من الشاشات الفضية والذهبية لتغدو واقعاً يومياً يستبيح مدننا وقرانا وشوارعنا وبيوتنا وحتى غرف نوم أطفالنا، وصولاً إلى أبعد نقطة في وعينا، ممعنة فيه كيّاً وتشويهاً.

في خضم رحلة إعادة التقييم هذه، ليس بمستبعد أن يجد المرء نفسه مضطراً أيضاً إلى إعادة النظر في العديد من البديهيات والمسلّمات والمفاهيم التي ما خطر له يوماً التعرض لمناقشة دلالاتها نظراً لشدة رسوخها ووضوح وسطوع معانيها كشمس رابعة النهار.

لا أود الخوض في تفاصيل حديث شائك ذي شجون وآلام حول تلك البديهيات والمسلمات التي انتهكت واستبيحت على مدار كل يوم من أيام عمر أزمتنا الراهنة، ولكنني أجد نفسي مدفوعاً للتوقف ولو لبرهة عند أحد تلك المفاهيم المتداولة ارتأيت أنه الأجدر بسوقه مثالاً على مدى التزييف والتزوير الذي يمكن أن تتعرض له حتى أكثر الكلمات وضوحاً وجلاءً، والأولى بالطرح على مشرحة إعادة النظر، وذلك لشدة استفزازه وإمعان كل من هب ودب في امتطائه بما يتناقض كل التناقض وأصل مدلولاته الراسخة في وعينا رسوخ الجبال.

إنه مفهوم (الإنسانية) مع كل مشتقاته وملحقاته.. هذا المصطلح اللطيف البراق المشتق من اسم الإنسان باعتباره أميناً على قيم الخير، من محبة وتسامح وإخاء وغيرها من مكارم أخلاق تميزه من بقية الكائنات. من هنا ارتبط وقع هذا المصطلح في وعينا لأمد طويل خلاصةً لهذه القيم والفضائل، اليوم.. ها نحن أولاء نرشف من الكأس التي تجرعها الكثير من الشعوب والأمم قبلنا ونتذوق بعضاً من طعم (الإنسانية) المطبوخة في أرقى المطابخ الغربية والعربية بنكهات متعددة. فحين تغدو مشاعر التعاطف (الإنساني) أداة من أدوات التدخل في شؤون الشعوب، وذريعة جاهزة لاستباحة استقلالها، وحين تتحول المساعدات (الإنسانية) إلى أسلحة ومتفجرات وسموم تفتك بالبشر والشجر والحجر، وحين تصل الوقاحة بأحد كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية – التي نصّبت نفسها وصياً تاريخياً على (سعادة الإنسانية) منذ أن منحت السعادة الأبدية لملايين السكان الأصليين في القارة الجديدة-حد وصفه العدوان المزمع شنه على الشعب السوري بأنه سيكون عبارة عن (ضربات إنسانية محدودة).

حين يحدث كل ذلك التزوير والنفاق باسم (الإنسانية) ومشتقاتها، فلا بد من إعادة النظر بهذا المفهوم الفضفاض الذي ما عاد يعبّر مطلقاً عن روح الفعل الإنساني الحق ودوافعه.

في لحظة ما من هذه اللحظات العصيبة التي تعصف بكياننا يكاد العقل يكفر بالمنطق وبالمقدمات والنتائج وبكل مبادئ الفكر والعلم، ليسأل أسئلة بسيطة تستجدي إجابات تتناسب وبساطتها:

كيف وصلنا إلى هنا؟ ما الذي اقترفناه من آثام لنجزى بالحياة في هذا العصر (الإنساني)؟ ما ذنب الأبرياء الذين تسفك دماؤهم تارة بسيوف صدئة استلت من مجاهل التاريخ، وتارة أخرى بصواريخ (التوماهوك) البراقة اللامعة؟ماذنب الأطفال الذين انتزعوا من أحضان (ماما ماما يا أنغاما)ليلقى بهم في عراء اليتم والتشرد والخوف؟

الجواب بسيط جداً.. الأمر متعلق بجوهر طبيعتنا وكنه كينونتنا نحن البشر، هذا ما ينبئنا به تاريخنا (الإنساني) التليد مذ وطئنا ظهر هذه البسيطة، هذا التاريخ الذي أوجزه أحد جهابذته بأنه (عبارة عن سلسلة من الحروب قد تفصل فيما بينها أحياناً بعض فترات السلم)، إنها النزعة العدوانية المتأصلة في مورثات هذا الجنس المسمى (الإنسان).

كيف وصلنا إلى هنا؟! لقد وصلنا إلى هنا منذ تلك اللحظة التي أسبغنا في (إنسانيتنا) الكاذبة على وحوش غرائزنا الدائمة التعطش لدماء الآخر، وآمنّا بأكذوبة المجتمع (الإنساني) مخلّصاً نهائياً للبشرية من ظلمات قانون الغاب الذي قد نجد أنفسنا يوماً ما مضطرين لإعادة الاعتبار إليه والعودة إلى شرائعه (الرحيمة) بديلا عن إنسانيتنا الرهيبة.

العدد 1105 - 01/5/2024