معارك آل سعود الكبرى

حتى يستطيع آل سعود الحفاظ على عرشهم بعد أن بدأت رياح التغيير تهُّب على المنطقة العربية، لجأ جهابذة العمل السري في الرياض إلى انتهاج ثلاث استراتيجيات ترسم توجّه سياسات المملكة داخلياً وخارجياً.. وهي كالتالي:

1- الحل الأمني في مواجهة الحراك الشعبي الداخلي، الأمر الذي أدى إلى موجة قمع وبطش ترافقت مع عمليات اعتقال واسعة طالت رجال ونساء من باب الردع المُبرمج وإرهاب المجتمع، حتى أصبح دخول الناشطين السياسيين وخروجهم من السجن أمراً روتينياً. وترافق ذلك مع حملة إعلامية مركزة جعلت البعض يعتقد أن هؤلاء ما هم إلا إرهابيين يحاولون إثارة الفتنة والبلبلة في المجتمع ويهدفون إلى تهديد الأمن والأمان الذي ينعم به المواطن السعودي.

2- تقسيم المجتمعات العربية على أُسس طائفية وحشد الأكثرية خلف عدو وهمي يُعتبر مرتبطاً بأجندات خارجية.. فمن مصلحة آل سعود اليوم أن يشتد التخندق الطائفي والاصطفاف خلف وهم وحدة الطائفة على امتداد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الأمر الذي يؤدي إلى شق الصف الوطني وتشرذم المجتمعات العربية وتحويل موضوع بناء الدولة على أسس حديثة إلى حديث حروب المذاهب والطوائف للدفاع عن الملة وحماية بيضة الإسلام.

3- استغلال نظام الحكم القائم في الرياض لعوائد النفط ليشتري الولاء داخلياً والذمم خارجياً. فعلى الصعيد الداخلي في المملكة العربية السعودية، أقر حزمة من الهبات والمكرُمات قُدمت للشعب السعودي من خزينة المملكة، في خطوة اعتبرها البعض أكبر رشوة تُدفع لشعب في التاريخ، كي لا يثور على نظامه. وحتى هذه اللحظة يظل آل سعود معتمدين على قوتهم الشرائية بديلاً عن الشرعية السياسية الحقيقية التي تحكم أي نظام سياسي في العالم.

وعلى الصعيد الخارجي، لجأ آل سعود إلى استخدام قوتهم الناعمة، بنشر المذهب الوهابي التكفيري في مختلف بلدان المنطقة، بواسطة الدعم المالي للمؤسسات والتيارات الدينية، وعقود عمل للإفراد، وبهذه الطريقة كانت الرياض تقوم بشن هجوم استباقي وخلق رؤوس جسور في مجتمعات تلك البلدان، هدفها إعداد أفراد وتدريب كوادر وخلق كيانات تؤمن بالفكر الوهابي، تكون أشبه بالسد المنيع أمام أفكار الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية، حتى لا تصل إلى شبه الجزيرة العربية. فبالعمل على السيطرة على مصر – التي سبقت النهضة فيها بعض البلدان الأوربية – ومحاولتها السيطرة على بلاد الشام، بخلق موقع قدم لها في شمال لبنان يكون القاعدة الأمامية للهجوم على دمشق – معقل القومية العربية ذو التوجّه العلماني – تقوم الرياض بمحاولة  السيطرة على عاصمتَيْ الثقافة العربية، بعد أن تكفلت واشنطن بتدمير العاصمة الثالثة – بغداد – وعملت على إخراجها من الدائرة العربية إلى أجل غير مسمى، بتغذية النزاعات العرقية والمذهبية والطائفية بين أطياف الشعب العراقي.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل عملت الرياض على تأجيج الصراع السنّي – الشيعي في المنطقة، بهدف منع مرور (نسائم الحرية والتغيير الديمقراطي) إلى منطقة الخليج العربي، المنطقة المحرّمة على غير آل سعود والمذهب الوهابي. وذلك بحرفه عن تحقيق أهدافه في الحرية والعدالة والديمقراطية إلى صدام سني/شيعي، بداياته في مملكة البحرين والجمهورية العربية السورية ونهايته على امتداد الجغرافيا الإسلامية.

وبعد أن حققت السعودية نجاحاً نسبياً في إخماد صرخة الحرية في البحرين، وتمكنها من إقصاء عدوهم التقليدي (الإخوان المسلمين) عن حكم مصر.. بدأ آل سعود بعملية تحرير سورية من تاريخها وحضارتها وهويتها، بهدف القضاء على الدور الذي تمثله دمشق كقلب نابض للعروبة.

ومن أجل ذلك بدأت المملكة بعملية إعادة صياغة للدور اللبناني السياسي والاجتماعي والاقتصادي بما يناسب التبدّل الذي حصل في موازين القوى في المنطقة، فانشغال (الشقيقة الكبرى بمشاكلها الأمنية الداخلية) سمح للشيخ السعودي بأن يتغلغل في بعض المناطق اللبنانية بواسطة المال أو الإرهاب تارة، وبإثارة النعرات الطائفية عند ذوي النفوس الضعيفة والعقول الصغيرة تارة أخرى. فلبنان في محصلة الأمر هو الأخ الصغير لسورية في نظر البعض، وعدوها اللدود عند أنصار الباحثين عن الحقيقة في متاهات أوربا أو بين كثبان وفيافي صحارى العرب. ومن هذا المنطلق كان لابد من إعادة رسم دوره كي يتناسب مع ما وُضِعَ من مخططات لتحويل سورية إلى أرخبيل من الجزر الطائفية والعشائرية والقومية والدينية المتقاتلة. ففي حال نجاح هذا المخطط يكون آل سعود قد أغلقوا البوابة الشامية التي ستمر منها رياح التغيير إلى قلب شبه الجزيرة العربية.

لكن هل بلغت الرياض سُن الرشد حتى تستطيع أن تُنفذ مخططاً كهذا دون رضا الوصي الأمريكي؟ من حيث المبدأ، هذا المخطط لا يتقاطع ولا يُعرقل مخططات واشنطن للمنطقة، لا بل من الممكن أن تخوض الرياض هذا الصراع ضد (الهلال الشيعي) بموافقة ضمنية من واشنطن، ما دامت الرياض قادرة على السيطرة على مفاصل صنع القرار في القاعدة ومشتقاتها على الأرض السورية، وتضمن بأن لا تصل إلى السلطة في دمشق.

فالخط الأحمر الوحيد لواشنطن في سورية هو عدم سقوط دمشق بيد التنظيمات الإرهابية، وعدم تحول سورية إلى قاعدة للعمليات الإرهابية ضد الغرب وإسرائيل. وما عدا ذلك يندرج ضمن قائمة المباح، مادامت بقيت موازين القوى لصالح القوات المسلحة السورية. فواشنطن لا تمانع من أن يستنزف السعوديون قدراتهم المادية وهم يمولون معركة استرداد كرامتهم المهدورة في دمشق، وأن تستنزف معها قدرات القوى المناهضة لواشنطن من التنظيمات المصنفة أمريكياً الإرهابية (كالقاعدة والجناح العسكري لحزب الله)، وحتى قدرات الدول التي تدعم الحكومة السورية كإيران وروسيا الاتحادية. فالعقلية البرغماتية لواشنطن تمنعها من تقديم خدمات مجانية لأحد، فحتى ولو وصلت إلى تفاهمات مع  أعدائها حول ملفات معينة ك(الملف النووي الإيراني)، فهي تعرف مسبقاً أن هناك ملفات أساسية تبقى محل صراع دائم حتى مع الأصدقاء والحلفاء.

العدد 1104 - 24/4/2024