«الجثث الدافئة» وظلال اليأجوج والمأجوج

داعبت أحلام نهاية العالم مخيلة المبدعين، فنسجوا الحكايات وألبوا المخاوف وبذروا الآمال،  قرعوا الأجراس وحذروا من سقوط الحضارة، استدعوا ظلمات الجحيم العميقة واستثمروا في الرعب والهلع لتحقيق المكاسب الوفيرة، فبلبلوا النفوس ليسهل عليهم جرها إلى التوحش.. وأحدث صرعاتهم كانت فيلماً أمريكياً يحمل اسم الجثث الدافئة (WARM BODIES) للمخرجَيْن جوناثان ليفين وديفيد هوبرمان. والفيلم يتكئ على ظاهرة (الزومبي) المستوطنة بكثرة في السينما الأمريكية..

يفترض الفيلم ن نهاية العالم حدثت نتيجة حرب كيميائية جرثومية، حولت البشر المصابين إلى جثث تلتهم الأحياء الباقين، مما أدى إلى انقسام العالم إلى قسمين معزولين بجدار، تدور بينهما مهزلة القتل والالتهام.. وكأننا نستعيد قصة السد الشهير الذي بناه ذو القرنين ليحجب آكلي لحوم البشر  (يأجوج ومأجوج) ويؤجل طغيان بهيميتهم إلى يوم مرصود.

في مشاهد الفيلم الأولى نلتقي بالبطل آر (نيكولاس هولت) وهو يتجول هائماً على وجهه، ضمن مجتمع كامل من الأموات، ناشداً تواصلاً مستحيلاً مع الكائنات الإنسانية السوية. وباعتباره جثة متهالكة تملك ملامح البشر، تنغلق دائرة المشاعر والانفعالات الحية، كالألم والفرح، والحزن والحب، وتختفي ذكرياته دون أي أثر يذكر بالشخص الذي كانه يوماً. ويغدو الجوع إلى الذاكرة الإنسانية أقوى بكثير من حاجات المعدة وصراع البقاء. فالجثث تتغذى بأدمغة الأحياء لتغنم ذكرياتهم وتستعيد الإحساس المؤقت بالحياة. وإن عجزت عن صيد أحدهم، تتحول تدريجياً إلى هياكل عظمية تنتظر فناءها المحتوم. ورغم ذلك لا يعدم آر وجود صديق يشاركه الزمجرة والهمهمة والطواف الجماعي مع الآخرين، كقطيع يلتمس دفء التشارك في المصير الغارق في ظلاميته ومجهوليته.

على الطرف الآخر هناك ناجون يدربون أبناءهم على المقاومة والدفاع عن الجدار الفاصل، وحق الاحتفاظ بالهوية الإنسانية. يرأسهم عقيد متصلب يدفع ابنته جولي (تيريزا بالمر) وصديقها بيير ضمن حملة تطوعية لاجتياز الجدار وجلب أدوية مفقودة، فتتهيأ حلبة المواجهة بين الجثث والأحياء. وبدلاً من شرارة الحرب ينطلق سهم الحب ليصيب آر فيحيره، لكن معركة الحياة والموت تستعر، فيقتل آر بيير ويلتهم دماغه ويكسب ذكرياته. ويؤهله الاستلطاف البدائي للدفاع عن جولي وحمايتها من الالتهام، ثم أخذها إلى منزله بالطائرة المتوقفة في المطار، حيث اختارت الجثث المكوث لأنه مكان الانتظار!

في الطائرة تبدأ رحلة التعرف على الإنسان/الجثة، أو ما بقي من إحداثيات هويته القديمة، فهو جامع أشياء متنوعة، محب للموسيقا الكلاسيكية الجميلة، يجهد للتلفظ بكلمة آمن لبعث الطمأنينة في نفس الفتاة، وكأنه إنسان بدائي يحتار كيف يحظى بإعجاب أنثاه. ومع التهامه المزيد من الدماغ يستعيد قدرته الأولية على النطق، ثم ليونة الحركة وانسجامها مع إعمال العقل. وبالتالي ترتسم مرحلة تأسيس لذاكرة جديدة قوامها التعرف على الآخر وبناء ذكريات مشتركة معه. وبمعنى أدق هي رحلة العودة من حالة التوحش البدائي المقيدة بعجز التعبير عن الذات، إلى حالة الاستواء المتوجة بالعقل. وأولى بوادرها تكون باستيقاظ غريزة الدفاع عن الآخر، المتمثلة بإمساك يد الفتاة لحمايتها من الجثث الأخرى، مما يولد شعوراً يماثل الصدمة الانفعالية لدى الجثث. فيعرض الصديق تقديم المساعدة لتهريب الفتاة، مما يشي ببوادر الإنسانية المستعادة، التي تتعزز بملاحقة الهياكل لهما أسوة بالأحياء. الأمر الذي ينبئ بتخلخل في طيات عالم الأموات العالقين. وفي الوقت نفسه تتوالى عملية بناء الذاكرة الجديدة، وتدعم بتيقظ الشعور مجدداً بواسطة إحساس آر ببلل المطر، ثم استغراقه في النوم للمرة الأولى منذ موته، والغرق في الحزن إثر هروب جولي إلى عالمها من فتحة ممر سري. ومع تزايد الجثث العائدة إلى الحياة، يتعاظم هجوم الهياكل عليها، فيطلب الصديق من آر التوجه إلى ما وراء الجدار لطلب المؤازرة من الأحياء وإعادة دمج الجثث في نسيج الحياة الاجتماعية. يتكئ آر على ذاكرة بيير للتسلل إلى عالم جولي، ويقف تحت شرفة منزلها كروميو العصور القديمة منتظراً إطلالة حبيبته.. وبعد سلسلة من المطاردات بين الهياكل والجثث والجنود، ينتصر حب آر وجولي ويثبت تفوقه على التبدد الوحشي، فيؤمم العالم من جديد وينفتح لتأهيل الجثث العائدة إلى الحياة.. ليؤكد صناع الفيلم أن حماية الحس الإنساني الرفيع من التبعثر في دهاليز الظلمة المادية، هو وحده أساس البقاء والارتقاء والقبول في مملكة السماء.

ضمن الإخراج الجميل لمحنة المقيدين في عدميتهم البهيمية، تحريكاً ملائماً لجمود العالم الغارق في ماديته، وحملت الاستعارة المقززة لآكلي البشر الزومبي، والتي هي النسخة الأحدث لقوم اليأجوج والمأجوج، تذكيراً جيداً بمآل الانحدار الأخلاقي المعاصر.

العدد 1105 - 01/5/2024