دمشق تضيق بساكنيها

عانت دمشق منذ بداية الأزمة السورية اختناقات سكانية كبيرة، ولكن لم يكن الموضوع يشكل إلحاحاً كبيراً من حيث استيعاب كمية النازحين الكبيرة من محافظات القطر، فقد اضطر الكثير من أهل درعا وحمص إلى النزوح إلى دمشق وإلى ضواحيها، وكان الاستيعاب كبيراً وخصوصاً في المخيم والتضامن، رغم أن زيادة الإيجارات كانت واضحة واستغلال الأزمة من قبل ملاك البيوت بدأ منذ أول يوم. فقد كانت إيجارات البيوت في تلك الضواحي رخيصة نسبياً تتراوح بين 8 آلاف و14 ألف، وعند نزوح أهل حمص ارتفعت فبلغت بما بين 10 و20 ألفاً، ولكن هذا الغلاء لم يمنع المواطنين من استئجار البيوت بل وشكر أصحابها أيضاً.

ولكن مع اشتداد الأزمة وانتقالها إلى بقية المحافظات، ثم اشتعال الريف الدمشقي، نقصت المساحات والبيوت القابلة للسكن التي تؤمن حداً أدنى من الأمان، فزادت قيمة الإيجارات زيادة مضطردة لم تتوقف إلى الآن، وهي الأغلى بالمقارنة مع المدن والمحافظات الأخرى.

توجه كثير من الفقراء وأصحاب الدخل المحدود المنخفض إلى المدارس ومراكز الإيواء التي أنشأتها الدولة، بينما ذهب القسم الأفضل حالاً إلى أماكن المخالفات والأحياء الفقيرة علهم يجدون شققاً مفروشة وغير مفروشة تناسب دخولهم المنخفضة، وعندئذ بدأ بعض الناس باستغلال حاجة بعضهم الآخر، بغض النظر عن معاناة إخوتهم في الوطن، واستثمروا المعاناة بأقصى ما يستطيعون. وعندما سألت السيد محمد (وهو صاحب أحد المكاتب العقارية التي ازدهرت أعمالها كثيراً في الآونة الأخيرة) أخبرني أن المنازل التي تتألف من ثلاث غرف يعيش فيها ثلاث عائلات وهذا ما يشكل عبئاً كبيراً على المنزل وعلى أثاثه، لذلك ارتفعت الإيجارات نحو50% وخصوصاً إذا كانت جيدة الكسوة والفرش، فقد كانت البيوت الكبيرة فارغة معظم أيام السنة، أما الآن فهي تؤجر حتى قبل أن تفرغ، وهذا الطلب الكبير جعل صاحب البيت يختار المؤجر الذي يدفع أكثر وأصبح يضع شروطاً تعجيزية ك أن يدفع من يريد الاستئجار مبلغاً مقدماً، أو أن يلتزم بفاتورة كهرباء بمبلغ محدد مهما كان استهلاكه.

والبيوت الصغيرة المؤلفة من غرفة وصالة كانت مقصد الطلاب، وكانت تؤجر بمبالغ قليلة، أما الآن فتتراوح أجرتها بين 15 ألفاً و20 ألفاً، وإن المكاتب أصبحت تعاني أيضاً من إيجاد بيوت لزبائنها لأن معظم البيوت أصبحت مؤجرة.

أما الزبائن فهمومهم مختلفة جداً. فتقول رنا (وهي نازحة من داريا) إن خروجها لم يكن بيدها لأن القتال أصبح قريباً من بيتها، فخرجت لا تلوي على شيء وقررت استئجار بيت كبير إلا أن تجار الأزمات فاجؤوها بغلاء فاحش جعلها غير قادرة على استئجار بيت في منطقة مثل المزة، مما اضطرها للاستئجار في أماكن المخالفات، وقد عانت كثيراً بسبب الموافقات الأمنية التي فرضت عليهم، والتي أصبح الحصول عليها صعباً جداً، وتتضمن إحضار الهويات الشخصية للقاطنين لتسجيل محضر تعريف رسمي، وهي طريقة جيدة للأمان إنما ما تعانيه رنا هو صعوبة الحصول عليها والرفض ما اضطرها إلى الاستئجار في أماكن بعيدة عن دمشق مناطق آمنة إنما بعيدة عن الخدمات وطرقاتها غير آمنة الطرقات إليها مزدحمة ك ضاحية قدسيا، وأيضاً مرتفعة الإيجارات. وتعاني رنا غلاء أسعار المواد الغذائية والخضار، بذريعة بعد السوق عن الأسواق الرئيسية في دمشق. أما ليلى (وهي من نازحي حرستا) فقد استأجرت منزلاً صغيراً في منطقة مخالفات 86 وقالت إن البيت دون عفش ب 12 ألف ليرة واضطرت لبيع مصوغاتها الذهبية لتأمين العفش، وإن صاحب البيت إذا قرر طردها من البيت ستضطر لبيع العفش بنصف سعره وتبقى في الشارع.

وللأسف لكل إنسان قصة تدمي القلب، ورغم كل المساعدات الحكومية تظل المشكلة قائمة بعيدة عن الحل، وخصوصاً بظل انتشار رقعة الاشتباكات وهروب الناس، فهاهي ذي قدسيا مرشحة لموجات نزوح جديدة، وأعتقد أن تكون دمشق عاجزة عن استيعاب النازحين الجدد وخصوصاً أن قدسيا مليئة بالأصل بالنازحين من المخيم والقدم، لذلك ستزداد الحال تعقيداً بما أن الحل على ما يبدو بعيداً.

أخيراً جلّ ما يتمنى المستأجرون من أصحاب البيوت أن لا يستغلوا حاجتهم وأن يعودوا إلى ضمائرهم وأن لا ينسوا أنهم أبناء وطن واحد، وأن الإنسان في الأزمات يجب أن يكون قادراً على مدّ يد العون لا قطع يده والتسول عليها.

العدد 1105 - 01/5/2024