هل بات العنف سمة المجتمع السوري اليوم؟

من المؤكد أن ظاهرة العنف ليست معطىً جديداً أو طارئاً على البنية الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا، بل يمكن القول إن هذه الظاهرة قديمة قِدَم الإنسان بما هي عليه من اعتبارها ظاهرة تحدّ دائم لوجود الإنسان، ابتداءً من جريمة قابيل وانتهاءً بالغازات الخانقة والصواريخ العابرة للقارات، إلى ما هنالك من وسائل وأساليب عنفية قد يتفتق عنها ذهن هذا الإنسان مستقبلاً.

ويُعرّف العنف بأنه إلحاق الأذى والضرر بكائن أو مجموعة بشرية، بحيث يكون هذا الضرر إما مادياًّ، أو جسمياًّ، أو نفسياًّ، أو معنوياًّ، بوسائل مختلفة تسبب للفرد أو الجماعة آلاماً وخسائر متفاوتة في حدتها وفظاعتها.

وإذا ما تفحصنا حال المجتمع السوري في ظل الأزمة والحرب الدائرة منذ ما يُقارب الثلاث سنوات، نجد أن هذا الوضع غير الطبيعي قد خلق تداعيات كارثية على مستوى الفرد والمجتمع، قد تشكّل، إذا ما استمرت، الركن الأساسي في عملية انهيار هذا المجتمع ووقوعه في براثن الفوضى التي تقود الفرد إلى سلوكيات هدّامة للقيم الاجتماعية والأخلاقية، وكذلك إلى تفشي ظواهر عنفية بسيطة أحياناً وفظيعة أحياناً أخرى لم نكن لنلحظها سابقاً على النحو الذي هي عليه اليوم، والتي تأخذ منحيين رئيسيين فردياً ورسمياً:

– المنحى الفردي: المتمثّل بالأنانية في التعامل مع الآخرين، مروراً بأدنى حالات العنف كالصراخ والشتائم، وصولاً إلى عمليات الخطف والابتزاز والقتل والاغتصاب والسرقة بأشكالها كافة.

– المنحى الرسمي: المتمثّل بالاعتقال مقابل التراخي الأمني اللافت، إضافة إلى التهديد بالتسريح من العمل بالتشبّث ببيروقراطية مقيتة من حيث التقيّد بأوقات العمل بعيداً عن الظروف الأمنية والموضوعية، وكأنه لم يعد هناك من إنجاز آخر تحتاجه البلاد في هذه الظروف العصيبة غير التقيّد بالدوام وما تخلّفه هذه الحالة من دسائس يقوم بها البعض مستغلاً الظروف المواتية لمثل هذه التصرفات والمسلكيات المُشينة.

في المنحى الفردي: نجد أن العنف والصراخ والشتائم صارت التقليد شبه الاعتيادي في علاقة الناس ببعضهم، أكان في الشارع أم في الأماكن العامة، كوسائط النقل والعمل وسواها، ولا تُستثنى الأُسر من ممارسة هذا النوع من العنف بين أفرادها بشكل عام، إذ شارف التفاهم والمودة والرحمة على الاختفاء من التعامل الإنساني اليومي، إضافة إلى الأنانية الفجّة، التي أصبحت سمة طاغية على الأفراد من جميع الشرائح تقريباً، فيما يخص الاحتياجات اليومية أو المعيشية وسواها، رغم أن البعض ليس بحاجة ماسّة للكم الكبير مما يخزنون من احتياجات.

قد يكون هناك مبررات تفرضها الحالة التي يعيشها الناس، مثل ندرة المواد والسلع في الأسواق، لكن ليس إلى الحد الذي يجعلنا نسير على مقولة: أنا ومن بعدي الطوفان، فقد شاهد الجميع المشاجرات اليومية على أبواب الأفران، التي أدّت في بعض الأماكن إلى استخدام بعض أنواع الأسلحة كالسكاكين والمسدسات وسواها، حتى وقع في بعض المناطق جرحى أو حالات إغماء نتيجة التدافع والازدحام. ناهيك ببعض حالات التحرّش التي تتعرض لها النساء والفتيات. وهذه الحالة يمكن القياس بها على المازوت أو الغاز أو الماء. فقد شهدت منطقة السلمية في ريف حماة مقتل شخص نتيجة الاختلاف والمشاحنات الدائمة بين الناس للحصول على الماء، بعد العطش الذي عاشته المدينة منذ عدة أشهر.

ولا يفوتنا طبعاً ازدياد عمليات النهب والسرقة التي باتت شبه عادية بسبب نزوح السكان من بيوتهم في المناطق المتوترة، إضافة إلى عمليات الخطف والابتزاز التي طفت على السطح وصارت مسلكيات عادية لدى البعض من أجل الحصول على المال في ظل الفلتان الأمني وغياب سلطة القانون. إذ ابتعد القيّمون عليه عن القيام بواجبهم في تلقي البلاغات وتنظيم الضبوط اللازمة من أجل معالجة تلك الحالات التي عاثت في المجتمع نهباً وقتلاً، حتى لو وصلت إلى مبتغاها في قبض الفدية في كثير من الحالات التي سمعنا عنها في كل أرجاء البلاد، والتي قد لا تكون لها صلة بأي من أطراف النزاع الدائر اليوم. وأيضاً عمليات القتل التي تحدث بهدف السرقة أو سواها، فمؤخراً قام أحد أبناء منطقة السلمية، وهو فتىً لم يبلغ سن الرشد بعد، بقتل جدّيْه من أجل الحصول على المال والذهب، مما أثار استهجان المجتمع وصدمته لتلك الحادثة الغريبة عنه.

في المنحى الرسمي: نجد أن حدّة القمع قد ازدادت ازدياداً ملحوظاً وغير طبيعي أو مقنع بعد الأزمة. فقد صار الاعتقال والتوقيف شبه يومي وعادياً في حياة الناس، مقابل التراخي والغياب عن المناحي الأمنية الضرورية للمجتمع في مثل الحالة السورية. حتى صرنا لا نلحظ أيّ دور فاعل لأقسام الشرطة المدنية أو المرورية في الأحياء والمناطق الآمنة أو غير الآمنة. كل هذا يقابله تشدد حكومي في التعامل مع موظفي الدولة من حيث وجوب الالتزام بأوقات العمل الرسمية، غير آبهين بالأوضاع الأمنية غير المستقرة في كثير من مناطق المدينة، ولا بكثافة الحواجز الأمنية/ العسكرية، ناهيك بأزمة وعرقلة المواصلات التي باتت عبئاً يومياً يستنزف طاقات الموظف المادية والمعنوية والنفسية. حتى باتت تعليمات التقيّد بأوقات العمل والعقوبات الناجمة عن عدم التقيّد هي الشغل الشاغل للمديرين والمسؤولين، وكأنه ليست هناك أوّليات أخرى تقتضيها الظروف الراهنة أكثر من الالتزام بساعات العمل الروتينية، مما جعل الأبواب مشرعة أمام الدسائس والفتن بين العمال والموظفين، انتقاماً فردياً من مواقف بعيدة عن العمل الوظيفي وعلاقاته. وهذا بالتالي قد يؤدي إلى تسريح العامل أو الموظف من عمله تبعاً للتعليمات الحكومية البيروقراطية المتشددة في ظل مناخٍ مشبع بالفساد والعنف.

إن صفة العنف السلوكي والأخلاقي التي يعيشها المجتمع السوري اليوم قد تضاعفت نتيجة الظروف والأزمات التي يعيشها بفعل كل ما ذكرنا، إضافة إلى عدم الاستقرار وما لحق به من نكبات قد آلمته كثيراً وحطّمت نسيج علاقاته وتفاعلاته نتيجة الحرب الدائرة وما تحمله من عنف وإجرام، حتى بات الإنسان السوري اليوم متخماً بالكبت وبكل الأزمات التي أفقدته ميزات المرح والمودة والطيبة التي اتصف بها على الدوام. ما دفعه لأن يثور لأتفه الأسباب، وهذا ما جعل العنف السلوكي للأسف صفة لصيقة بالمجتمع.

فهل يعي المتحاربون فظاعة ما يرتكبون، ويعودون إلى رشدهم، وإلى وسائل أكثر سلمية من أجل الوصول إلى حلول تُرضي جميع الأطراف، لنعيد بناء سورية الإنسان والحضارة؟

العدد 1107 - 22/5/2024