داء الكبت وتغيير نمط التربية

ما الذي يستطيع أن ينتزع من الجسد الذي ينبض بالحياة هرموناته وغرائزه؟ وأي أهل قادرين على أن يحيطوا بكل ما يجول في فكر أولادهم؟ وهل يمكن لهم أن يدفنوا مشاعرهم وكأنها شيء لم يكن، باعتقاد وهميّ منهم بأنّهم في هذه الحالة سيجعلُون أبناءهم في مأمن من الانحراف والانجرار نحو المخاطر الاجتماعية؟!

إلا أنهم ينصدمون أن دفنها بذلك الأسلوب جعلها تكون كقنابل موقوتة يحين موعدُ انفجارها عند أقل تعامل مع الجنس الآخر، وما أكثر هذه المواقف في عصرنا هذا..!

ففي ظل ما نراه من تقدّم في متطلبات الحياة كالإنترنت والتلفاز وما فيهما من محفّزاتٍ للغرائز واستنهاض للمشاعر المدفونة، وكذلك ما قد تحتويه أسواق العمل من الاختلاط، أصبحت الحاجة إلى نمط جديد للتربيةِ أكثر إلحاحاً تجنباً لتلك الانفجارات النفسية عند فئة الشباب خصوصاً، الذين يبدؤون حياتهم بذلك الطريق المستقيم الذي يمليه عليهم دينهم وتربيتهم، ومن ثم يبدأ القلب بالنبض.. والشعور بجسدهم يملأ خيالهم.. ولا يرون لتفريغ ما يجول في فكرهم إلا عبر الوسائل المفتوحة أمامهم، التي تستقطب كلّ من هو مثلهم، ليشكلوا معاً مجتمعاً تحتيّاً ما ورائيّاً مليئاً بالأخطاء والمشاكل النفسيّة وطرق تفريغ للشهوات غير مشروعة.. أو يجبرهم على الانحراف نحو أمور أكثر خطورة.

هذا يستدعي نظرةً أكثر موضوعيّة وأقل تعصباً لمثل هذه المشكلة الجديّة..

ومن هنا قامت (النور) بتحقيق حول هذا الموضوع، أسبابه ونتائجه وإمكانية تغييره، وقد كانت البداية مع (فادي) الذي قال عارضاً وجهة نظره عن أسبابه:

(مجتمعنا شرقيّ يتمحور معظم تفكيره حول القضايا الجنسيّة، ولكن في الخفاء، وذلك لما تراكم من سنوات تخلّف وجهل وسيطرة الغرائز على العقول، وتغييب العقل في سلسة انقطاع العلم والانفتاح على العالم والحضارات، ولا تزال آثاره تمتد إلى أيامنا هذه التي بات فيها العالم كله قرية صغيرة).

فيما قالت فدوى: (إنّ الأفكار الموروثة هي التي تشكل السبب الأكبر، وهي التي تزيد من سماكة التربة الاجتماعية التي تزرع فيها كل بذور هذه العادات، التي تبتعد كل البعد عن المنطق وتصور الأمور على غير حقائقها العلميّة).

أما  فؤاد فقد اعتبر أن مشكلة الكبت في مجتمعنا هي منبع كل مشكلة أخرى، لأنها تَطول فكر الشباب وتشغلهم بما لا بخدم مصلحتهم، كتحقيق إنجازات على الصعيد العمليّ والعلميّ.. ذلك لا يعني فتح المجال أمام تخطي ضوابط المجتمع، ولكن نظرة منطقيّة للمواضيع الجسدية وكيفية التعامل معها، وخصوصاً لدى المراهقين، وهي ثقافة تنقص معظم الأهالي الذي لا يجيدون من سبيل (لحماية أولادهم) سوى من خلال التعتيم على مواضيع بات الحصول عليها في عصرنا هذا أقل سهولة  مما يتوقعه الأهل، ولكن بكثير من المخاطر، فهم إن لم يلعبوا دورهم بهذا الموضوع، فستأتي وسيلة ما لتلعب هذا الدور، لكن تكون مجهولة وعواقبها غير معروفة).

في حين قالت امتثال:

(لا بأس من أن تأتي الأم إلى ابنتها أو ابنها وتحدثهم عن بعض ما قد يتعرضون له في حياتهم بصراحة، أن تجعلهم يطمئنون أن ما يشعرون به ليس بخاطئ، وأنه ليس عليهم أن يشعروا بخوف أو بتأنيب.. فهو أمر طبيعيّ، إلا أن عليهم التحكم به.. وكذلك يجب أن يكون لدى المجتمع اليقين أنّ الخطأ يجب أن لا يكون عقابه شديداً، والنظر إلى الخطأ على أنه خطأ لا على أنه جريمة!، فكل فعل له ردة فعل، ذلك أنه لا يوجد إنسان لا يخطئ، ومن الممكن عندما يرى الأب ابنته تحادث شاباً ما على الإنترنت أو الهاتف الجوال أو غيرها من وسائل الاتصال بأمور يعدّها خطيرة، أن يستشيط غضباً.. إلا أن عليه أن يتأنى، وأن يتحادثا معاً، وأن يعوضها عن الحنان الناقص في قلبها بكلماته ومسامحته، ويعلّمها مخاطر ما تفعله عوضاً عن صفعها أو ضربها، فبذلك يترك ندبةً في شخصيتها وحقداً في قلبها، ويجعلها تمارسُ ما كانت تمارسه بطرق أكثر سرية، وهذه الطرق أصبحت في أيامنا هذه كثيرة للغاية ولا يمكن حصرها أو مراقبتها جميعها.. وكذلك لا يمكن منعها فهي ضروريّة وخطرة في الوقت ذاته، وبحاجة إلى التدريب على حسن استخدامها..).

أما دريد فقد قال :

(إنّ التعتيم الكبير الممارس على هذه القضايا يجعلها وسيلة جاذبة للشباب، لأن كل ما هو ممنوع مرغوب، ومثير للفضول، وبالتالي فإن هذه الممارسات من جعل الأمر يبدو على أنه ذو أهمية وتفاصيل غامضة كثيرة، وما يُحاط به من عواطف وتعتيم يؤدي إلى نتائج عكسيّة، بينما إذا أخذ الموضوع منحاه الطبيعيّ وأُعطي المراهقون والشباب توعية مناسبة، فإنها لا تشكل خطراً، كما هو مُعتقد، بل الدرع الأكبر).

لذا، فإن ما علينا أن نصل إليه اليوم، ليس منعُ الإنسان عن كل ما يراه أهله خطراً.. بل في حال تعرّضه لمثل تلك المخاطر التي تصيب سهامها غرائزه، أن يعلم كيف يتصرف ويستطيع أن يمتلك رباطة جأشٍ وقدرة على الصبر، ومعرفة الخطأ من الصواب في قوة الشخصيّة التي تُبنى.. لا بالقمع والكبت بل بالمصارحة الصادقة والتفهم والمسامحة على الخطأ، في ظل المراقبة المعقولة ليبني الإنسان ذخيرته من التجارب التي تحميه وتعينه على مجاهدة ما قد يتعرض له في حياته من انحراف، ومعرفته المخاطر والنتائج..

العدد 1105 - 01/5/2024