آثارنا تَهرب أم تُهرّب؟

جذورنا المتعمقة في التراب تُسرَق، تاريخنا المترجم بالأعمدة يُنهب، شعوبنا التي مشت هنا شوارعها تُحجب، ذلك السيف وتلك الأيقونة وذاك الكتاب جميعهم تبعثروا.

كنا نمشي في حضن السوق التراثي، ونصلّي في تلك الكنيسة المقدسة، ونتباهى بتلك القلعة الشامخة، وأما المتاحف فسيرةٌ أخرى، ففيها القلم خطَّ التاريخ، ومنها الكتاب استسقى العلم، وعن طريقها المجد كتب حضارته ببلاد الشام.

معظم الشعوب مرّت من هنا، تعلمت منا العلم والدين والقانون والتجارة، معظم التاريخ سُطِّرَ من هنا، من قلب العروبة وأصل التاريخ، من أهل العنفوان والعزة والكرامة والمحبة.

تحفٌ كثيرة، اكتشافاتٌ مستمرة، ثيابٌ تقليديةٌ متنوعة، مخطوطاتٌ ورموزٌ وكتبٌ ترسم لك أصلك من الجذر، أول حرفٍ وأول مخطوطة سلام، تذكّرك كم من العظماء مرّ من هنا، وكم من الأبطال انتصر هنا، وكم من العلماء نبع من هنا، وكم من حضارةٍ وأصلٍ وعمقٍ كان هنا. لكل حجرٍ في بلادنا قصة، ولكلّ منحوتةٍ ألف قصة. تذكرنا بأننا لم نأخذ من كل تلك الأمجاد سوى قشورها وذكرياتها، بتنا نفتخرُ بالحجر وبالتاريخ مراراً وتكراراً حتى نسينا حاضرنا ومستقبلنا فبتنا مفلسين. كما قصة الغني الذي ورث عن أبيه ميراثاً كبيراً، فجلس عمره يصرف به دون عملٍ، فصارت آخرته تعيسةً ومتعبةً وفقيرةً دون موردٍ أو مساعد، كلُّ الأحباب تخلوا عنه وحتى الأصدقاء.

الذكريات تعبت. فقد نهب الكثير منها في الكثير من المدن السورية، في حلب والرقة وطرطوس وإدلب … والغريب أنه ليست اليد الغريبة هي فقط التي امتدت على أمجادنا، بل أيضاً هناك الأيدي الخفية، استثمروا تاريخنا لينهبوه، تباهوا به خارجاً، لا لأنه تاريخهم بل لتأتي الأموال إليهم وينسانا التاريخ. سمعنا الكثير من قصص السرقات أشخاصٌ يمرّرون ما يتيسر لهم عبر الحدود، وشاحناتٌ تأتي فارغة وتذهب محمّلة.. محمّلة بالكثير من تراب أجدادنا ورموز بقائنا، بالكثير من همومنا المثقلة بهزائم وانتصارات، بالكثير من الجهود المتظافرة ولقمة العيش، بالعديد من المخطوطات المكتوبة بحبر القلم والمجد والدم.. ها هي ذي آثارنا تتبرأ منا أيضاً، تهاجر بعيداً، تتركنا وهمومنا، تلغينا وتحاول أن تنسانا وتنسى ما نفعله بها وببعضنا، عسانا أن نقوم بتقديرها يوماً، علّنا نصنع غيرها فنفتخر بها يوماً، ولربما يفتخر المستقبل بنا يوماً. وخاصةً أننا نفتخر بها افتخاراً فقط، فمعظمنا لم يتعرف عليها لا في الكتب ولا حقيقة، فالبعض لا يعرف أول معاصر الزيتون في سيرجيلا والمدن المنسية، ولا المتاحف الوطنية في مناطق عدة في سورية، ولا التكية السليمانية، ولا البيمارستان النوري ولا قبر صلاح الدين، ومثل ذلك الكثير الكثير من التاريخ البعيد عن الزمن .. والعين.

هُرِّبَت الآثار، بقيت جراحنا … هربَ التاريخ، بقيت قتالاتنا … بقي الإنسان.. أملنا، أمل التاريخ الحديث والمتجدد، هل سنكتبه بالدم أم بالقلم؟ بالدمار أم بالعلم والثقافة؟ بالحب أم بحقدً سيفتت البلاد بأكملها؟ خوفي على الإنسان أن يصير تاريخاً بحد ذاته، فيقولون: منذ زمنٍ بعيدٍ كان يعيش هنا سوريٌّون .

يحضر في بالي مقطع الكبير دريد لحام بقلم العملاق محمد الماغوط في مسرحية (غربة) قائلاً باسم نمر: (يالله ظلوا أنت وإياه اختلفوا، وضيعوا وضيعونا معكن، وافتحوا إذاعتكم على الآخر، وبلشو اشتموا بعض، والأحزاب تدبح بعض بكل شوارع الوطن، كلكن معكم حق، كلكن عندكم وجهة نظر، كلكم عندكم آيدولوجية، كلكم معكم حق إلا الوطن هو يلي غلطان، عال، الوطن غلطان أنا معك، لأنو فقير معتر متلي، بردان أنا تيابه، سخنان أنا رقبته، ختيار أنا عكازته، حفيان أنا صرمايتو لأنه سيدي وتاج راسي وتراب أمي فيه.. التاريخ انكتب يا ابني، والحاضر هلئ عم ينكتب، بس الحمد الله المستقبل مازال صفحة بيضاء بدنا نتكاتف كلنا ونكتبو مع بعض)!

العدد 1105 - 01/5/2024