دور تركيا في مجازر الأمس واليوم

مجازر الإبادة الجماعية إحدى أبشع أشكال العنف الإنساني، وخاصة العنف المتمثل بالقتل على أساس رفض الاختلاف، لأنه يؤسس لفقدان الثقة بين الشعوب عامة وبين مكونات المجتمع الواحد خاصة، فبدلاً من أن تتقدم المجتمعات الإنسانية على أساس مدني حضاري، يعود بها العنف الممنهج إلى النزاعات الغرائزية البدائية وأحد تمثلاتها القتل على أساس الاختلاف الديني أو الطائفي أو الإثني أو القومي أو السياسي، وغالباً ما تُعزز هذه الغرائز بالعدائية والقتل ورفض الآخر من قبل أطراف متعددة لتستخدم لأغراض عدة غير مشروعة، منها المكاسب السياسية ومنها الاستيلاء على أرض وممتلكات الغير، فتمارس هذه الجرائم لإجبار السكان على الهجرة القسرية، وبالتالي استخدام أراضيهم بعد فرض معادلات ديمغرافية جديدة في المناطق المنكوبة. وهي بذلك تخرق كل حقوق الكائن الإنساني الطبيعية: حقه في السكن الآمن، وحقه في مزاولةِ حياته اليومية، وحقه في ممارسة معتقده الديني على أرض أجداده، كما حدث في بدايات القرن العشرين حين قامت الدولة العثمانية بأبشع مجازر عرفتها الإنسانية بحق الشعب الأرمني فقد قامت بقتل وتهجير أكثر من مليوني أرمني، اقتلعتهم من أرضهم التاريخية ومن مدنهم وأعمالهم ومهنهم ورمت بهم خارج عالمهم، فقضى عددٌ كبير منهم على الطرقات أثناء عملية التهجير الرهيبة، وولد عدد كبير منهم في بلاد غريبة بعيداً عن ديارهم وحولوا إلى شتات. وهذا ما حدث أيضاً مع السريان ومع الكلدان ومع الآشوريين ما سمي بمذابح سيفو أو المذابح الآشورية أو مذابح السريان، فضلاً عن المذابح التي ارتكبت بحق اليونانيين والعرب والأكراد في بدايات القرن الماضي وخلاله.

 وإذ نحن اليوم على مشارف الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية يدمينا الألم لما يحدث اليوم في بلادنا سورية، ونحن في بدايات القرن الحادي والعشرين، إذ تقوم الدولة التركية باستلهام ماضيها العثماني المريض معتقدةً أنها بذلك تسترجع مجداً آفلاً بُني على بحار من دمِ شعوبٍ عريقةٍ وأصيلةٍ في هذه المنطقة، وهي لا تزال حتى اليوم تحتل جزءاً كبيراً من الشمال السوري، ولا يمكننا  نحن السوريين-  أن ننسى أو نغفر سلخ لواء إسكندرون عن بلدنا الأم سورية. بينما تقوم تركيا المعتدية بالأمس واليوم باستخدام أراضينا السورية التي تحتلها معسكرات لتدريب الإرهابيين وممرات لتمرير الأسلحة ،مضللة الرأي العام العالمي والسوري بتلميع صورتها عن طريق استقبالها للاجئين السوريين، وهي أحد المسببين الأساسيين بمأساتهم وبتشريدهم من قراهم ومن مدنهم ، فقد قامت بخرق الحدود الشمالية الحالية لدولتنا ضاربة عرض الحائط بكل القوانين الدولية وبحقوق الجيرة، بعد أن سمحت بتمرير مجموعات كبيرة من المسلحين معظمهم من الإرهابيين المعدين مسبقاً في حاضنات غربية، إذ كيف نفسر وجود عدد كبير من قادة هذه المجموعات وقد تلقوا تعليماً جامعياً عالياً في معظم جامعات الغرب في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا، نظموا أصلاً ضمن تنظيمات إرهابية في الغرب تحت أعين أجهزة المخابرات الغربية، وهم أشخاص يعيشون حالة فصام مع ما وصلت إليه الإنسانية والمجتمع الدولي الذي كافح ليضع بعض القوانين التي تضبط تطاول الدول والجماعات الإنسانية بعضها على البعض الآخر، وعلى الأشخاص والأفراد من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ..

ونتساءل اليوم عن السبب الحقيقي وراء ما تفعله تركيا في الشمال السوري، الأمر الذي لا يمكن تفسيره سوى بأطماع تركيا في قضم أجزاء أخرى من بلدنا، بينما قضيتنا الأساسية معها قضية لواء إسكندرون لم تحلّ بعد. لقد وجدت الفرصة سانحة لخلق واقع جديد يمكنها من تنفيذ ما تحلم به من السيطرة على مناطق استراتيجية في الشمال، وعلى منابع النفط وآباره، عن طريق المعارضة والمجموعات المسلحة الإسلامية التي تدير عدداً منها، ويأتي اليوم هؤلاء الجهاديون من كل دول العالم محاولين فرض واقعٍ ظلامي جديد، ويتصرفون كآلات دمار مبرمجة، ويقومون بأبشع المجازر بحق الشعب السوري (مجزرة جسر الشغور ومجزرة حارم ومجزرة رأس العين ومجزرة معلولا ومجازر حمص وريفها ومجزرة مدينة عدرا العمالية…)، وعددٌ من هذه المجازر ارتكب فيها القتل على أساس طائفي بحت، كما حدث في 4 آب، فقد هاجمت عدة مجموعات مسلحة من الجهاديين التكفيريين عدة قرى مسالمة في ريف اللاذقية منطلقة من جبل الأكراد في ساعات الفجر الأولى لتنقض على الناس النيام، وكان معظم الموجودين في هذه القرى من النساء والأطفال والمسنين، فقتلوا معظم سكان هذه القرى وخطفوا أعداداً أخرى منهم (قرى بارودة وأنباتة والحمبوشية وبلوطة وأبو مكة وبيت الشكوحي وعرامو وبريمسة وإستربة وأوبين وخراطة) ارتكبت المجموعات التكفيرية هذه الجرائم فيما سمي بعملية تحرير الساحل، وشاركت في هذه المجازر أكثر من عشرين مجموعة إرهابية. وهذا حسب تقرير أصدرته منظمة الهيومن رايتس حول المجازر بعنوان (دمهم كان هنا) في تشرين الأول أكتوبر

 ،2013 ويمكن العودة إلى التقرير لمعرفة كيف قتلت عائلات بأكملها، وحول البحث والمقابلات التي قامت بها المنظمة لمعرفة حقيقة ما جرى في 4آب، كما يمكننا الاطلاع على تقرير التحرك العاجل لمنظمة العفو الدولية بتاريخ 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 حول النساء والأطفال الذين خُطِفوا خلال هذه العمليات كرهائن، أقتبس من التقرير (كتبت منظمة العفو الدولية، في 13 سبتمبر /أيلول، إلى رئيس (الائتلاف الوطني السوري) لطلب تدخله على وجه السرعة بشأن هذا الانتهاك الخطير لحقوق الإنسان، الذي يمكن أن يرقى إلى مرتبة جريمة حرب، ولطلب الإجابة على أسئلة ذات صلة: ولم نتلق أي ردود بعد. وكان قائد القيادة العسكرية العليا (للائتلاف الوطني السوري) قد زار المنطقة عقب أيام فقط من اختطاف الرهائن، وامتدح العمليات العسكرية)..

 قمنا بالتواصل مع بعض أهالي الضحايا الذين تحدثوا كيف أن أقربائهم الذين حاولوا الهروب إلى قرى أخرى أثناء الهجوم تعرضوا للخطف في تلك القرى من قبل المجموعات التي هاجمت القرى المنكوبة من عدة محاور، مما جعل عملية الفرار صعبة جداً، فقتل عدد منهم على الطرقات،تحدث بعض الناجين عن كيفية هربهم في الأحراش وكيف أطلق الرصاص من الخلف على بعض ممن حاولوا إنقاذ أعناقهم من الذبح، وقد عثر على عدد كبير من جثث المذبوحين داخل البيوت، بلغ عدد المخطوفين من النساء والأطفال فقط 115عرف منهم خمسون امرأة وخمسة وستون من الأطفال خمسون منهم تحت سن العاشرة ، وحتى اليوم تقوم جهات عدة من منظمات مدنية وحقوقية إضافة إلى الدولة السورية بالمفاوضات مع هذه المجموعات لإطلاق سراح الأطفال والنساء دون جدوى.

لكن تركيا أنكرت ذلك ،كما هي عادتها دائماً في نكران جرائمها القديمة والجديدة، وماذا يمكن أن ننتظر من دولة كتركيا يحكمها مجموعة من الرجال المسكونين بحلم العودة للماضي العثماني الاستعماري، ولا يزال ساستها ينكرون جرائم اقترفها قادتهم ومر عليها قرن من الزمان، إذ كيف سيبررون لمواطنيهم وللعالم سبب هذه الجرائم الوحشية، ويبخلون بكلمة اعتذار تاريخية لشعوب عانت الويلات من ظلمهم وبطشهم وتشتت بسببهم في مختلف بقاع الأرض، لكن في حياة الشعوب العريقة لا يموت حق وراءه مطالب، لذا من الواجب علينا اليوم نحن شعوب هذه المنطقة أن نخبر العالم كله حقيقة ما جرى في الماضي وما يجري اليوم، وأن نطالب باسترجاع أرضنا المحتلة، وباعتذار وتعويضات عما ألحقته الدولة التركية من أذى مادي تدميري أودى بأرواح آلاف الأبرياء اليوم وملايين الأبرياء في الماضي، ومن أذى معنوي زعزع الثقة بين شعوب هذه المنطقة، متابعين هذا النضال القديم بكل الوسائل القانونية والمعرفية المشروعة التي تحترم كرامة الإنسان وكرامة الأوطان عن طريق الملاحقة القانونية للدولة التركية بسبب ما تقترفه بحق الشعب السوري اليوم، وما اقترفته بحق الشعب الأرمني وشعوب المنطقة جميعاً في بدايات القرن الماضي.

 

(من محاضرة ألقيتها في المركز الثقافي، بدمشق)

العدد 1105 - 01/5/2024