التربية على الحوار… حل وقائي للمشاكل الخاصة والعامة

انطلاقاً من أزمة الحوار المتجذرة في بلادنا، يمكن القول: إن ثقافة الحوار التي نعاني من عدم إدراجها في حسباننا لغاية اليوم، كنسق عام في حياتنا المعاصرة، يأتي ذلك كنتيجة طبيعية متولدة عن تقصير جميع مؤسسات المجتمع، في إرساء التّربية الحوارية المتأسسة على الشّراكة مع الآخرين في كل تفاصيل الحياة. فهناك بعض التّصورات والمفاهيم المغلوطة، التي أسهمت في تغييب الحوار عن ثقافة المجتمع بدءاً من المناهج التّعليمية، التي واظبت لفترات طويلة على اسلوب التّلقين والاعتماد على الذاكرة، لا على التّحفيز الذّهني وتطوير التّفكير المنطقي المبدع.

إن تفعيل التّربية الحوارية، تعدّ حاجة ماسة في الحياة العصرية، ابتداء بمؤسسة التّربية الأولى(الأسرة) وانتهاءً بباقي مؤسسات المجتمع والدولة بلا استثناء، إذ يتحتم عليها تفعيل الحوار وتشجيعه ليصبح سمة وثقافة عامة، قبل إصدار القرارات والقوانين، وفي التّعامل مع أصحاب الرأي الآخر، فالحوار لا ينقص الهيبة أو السلطة، بل يزيدها قوة وشرعية، وعمراً مديداً بالفعالية ونجاح دورها. إن الممارسات التّقليدية في المعاملات، بدءاً من البيت والمدرسة والمجتمع تؤدي إلى السّلبية، ومن هذه الممارسات:

– عدم التّربية على الحوار، تكريس لسيادة الطّرق التّسلطية.

– حرمان الفرد حرية التّصرف، والتّدخل لحلّ مشكلاته واتخاذ القرارات نيابة عنه.

– عدم الجرأة في مواجهة المشكلات المطروحة أمامنا داخليًا، لأن عدم تأهيل أبنائها وعدم تدريبهم على الحوار، يؤدي بهم إلى رفض الآخر، مثلما يُرفض رأيهم داخل البيت والمدرسة وفي الحياة الاجتماعية، ومن ثَم عدم الثقة بالنفس وبقدراتها، وسيادة عقلية المؤامرة والإحباط عِوضاً عن عقلية الإرادة والإنجاز والفاعلية والمشاركة.

 وتبعاً لهذه الممارسات، لا يمكن تصور حوار من طرف واحد، لأن من بديهيات الحوار أن يكون بين طرفين، لأن الحوار من طرف واحد، يفقد أبسط قواعده.

مما تقدم يتضح جلياً أن يكون الحوار سعيًا من جانبين، لأن مقصده الوصول معًا إلى صيغة لما نريد، وإذا تحول إلى استجابة لمطالب طرف واحد فهو يدخل في نطاق الوصاية والهيمنة والتبعية.

تقع المسؤولية الكبرى على عاتق التّربية، باعتبارها المشروع العظيم الذي لا مجال للمساومة على مدى تأثيره على الأمة ككل، غير أن المربّي لم يعد قادراً على أن يديرها بأدوات بسيطة ومن طرف واحد، خاصة في عصر مليء بالمحفزات، والذي أصبحت أبوابه مشرعة للولوج إلى الشّهوات والشّبهات بكل سهولة، وهنا، صار المربّي والمتربي يقفان أمام تحديات كبيرة تقاوم هويتهما وعقيدتهما، وتشهر سلاحها في وجه قناعاتهما بكل ما أوتيت من قوة، لذا على المربي أن يكون مرناً إلى الحدّ الذي يجعله مواكباً للتغيّرات دون أن يخلّ بثوابته، وبالقدر الذي يجعله مؤثراً فاعلاً وبقوة في رعاية وتوجيه الجيل الجديد، بحيث يسمح له بالانطلاق نحو الحياة، وفق أطر وحدود تضمن له التّوازن والمرونة.إذ لم يعد مستساغاّ أن يمارس المربي أسلوب الفوقية، أو طريقة الإملاء والسيطرة، لأن أفق المتربي أصبح أكثر اتساعاً بحيث تعلو، وتبتعد فوق وعن هذه الأدوات وتجعلها تفقد فاعليتها، بل قد تلغيها وتقضي عليها بالزوال، تماماً كماء النهر إن بنيْتَ أمامه سدّاً صلباً تحوّل إلى طوفان يهدم السد بل ويرتفع فوقه، وعليه فإن المربي لابد أن يمارس دور التربية بذكاء.

التّربية التي ترعى ولا تتحكم، والتي تكتشف الطّاقات والمواهب، فتسمح لها بالنّمو، التّربية التي توجه، وتحاور باحترام للاختلاف ومن دون بث الفوقيّة أو السّطوة على الأجواء التي تجمع المربي مع المتربي.التّربية الذّكية، التي تحترم المتربي وتحفظ للمربي والمتربي حقوقهما، وتنظر للمتربي على أنه طرف مشارك، وأساسي في التربية، فتفسح لقلبه وعقله وروحه الاختيار بقناعة، وطاعة لله لا عبودية للبشر… وهي المرونة الحكيمة التي تضع الكلمة والإشارة والفعل في أماكنهم وأوقاتهم المناسبة، وصوغهم في إيحاء يؤثر على المتدربين، وهي بذلك تنأى عن الأنانية والمبالغة والانحراف عن القيم، وتحث على الإخلاص في العمل والتعامل الاجتماعي وتتحصن به. فإذا ما أدرك المربون ذلك بتعمق ورؤية مستبصرة، تخفُّ الضّغوط وتقل المخاطر، ولأن الحوار يتيح الفرص للتفريغ الانفعالي من خلال إتاحة الفرصة لنقل الذات، بأسس ميسرة بعيداً عن الخوف..) فمعرفتنا بذاتنا هي المنطلق لكل تغيير وخير نسعى اليه سواء كان ذلك بصورة ذاتية أو مجتمعية….

لأجل ذلك يعدّ الحوار من أحسن الوسائل الموصلة إلى الإقناع، وتغيير الاتجاه الذي يدفع إلى تعديل السلوك للأفضل، لأن الحوار ترويض للنفوس على قبول النقد، واحترام آراء الآخرين. وتتجلّى أهميته في دعم النمو النفسي والتخفيف من مشاعر الكبت وتحرير النفس من الصراعات والمشاعر العدائية والمخاوف والقلق؛ فأهميته تكمن في أنّه وسيلة بنائية علاجية تساعد في حل كثير من المشكلات.

تبقى الإشارة الى حساسية إنهاء الحوار بطريقة تربوية مثمرة، عندئذ يجب ألا يٌنظر على ان هناك خاسر ورابح، أو فرض سلطة وأوامر فقط. فالإجابة بكلمة (لا أدري( أو (لا أعلم) إذا سئل المحاور عن مسألة لا يعرفها، هي قدوة صالحة للأولاد. وفيها شجاعة نفسية بعدم التستر على الجهل الشخصي، فالتعلم بالقدوة من أكبر الفوائد التربوية.

 المحللة النفسية:

العدد 1105 - 01/5/2024