لعلك الشعر وأكثر

 وهكذا تصبحين سرير الغمام.. لكل من يود الانعتاق من الحياة إلى شرفة من الندى.. بليلة رطبة وادعة في ذلك الممر الوحيد إلى لحظة راحة وسعادة، تشعر الروح من خلالها أنها خارج إطار ذلك القيد الدنيوي الذي يعبث بمكنونها البهي كما تعبث الريح بالورق المتهالك على أغصان الشجر اليابسة!

إنه يباس الأحزان المتراكمة فينا خلال سني القحط التي تعبر بنا إلى كهوف الليل والوحشة والآه، لذا بدأت العيون لا تعي ما تراه، والمشاعر لا تعي ما تعيشه، والحناجر تغص بما لا يطاق!! وثمة رعشة من الأمل تكمن في الخيال البعيد النائي الذي يتوق إليك توق الهجير الحارق لقطرة من الماء عابرة تبل ريقه وتبعث فيه نشوة الحياة في لحظة الموت المحتم، ويجعلك مفتاح صباباته إلى ذلك الركن القصي من الروح، يبثك على أنين وجعه الحزين، ما تبقى من لهاث الناي في الريح تماماً، كالذي تبثه ثرثرات القصيدة في عشاقها الموجعين على سياجات الحنين والتذكر والانتظار!

آه منك أيتها اللذيذة المريبة القاتلة، وأنت البعيدة عن العين، ولكنك تذبحيننا بتلويحة شالك القادمة من هواجس الزعتر والزيزفون والبرتقال، وأنت النائية في البال، تقتلينا بهمسك الموجع كهديل حمام الأقصى وبحة أجراس كنيسة القيامة، وهي تصرخ بدوي نزف جراحها الهادر: يا غرباء المنفى المجاور، ويا ربع الخيام القريبة منا والملاصقة لقلوبنا.. هنا كل يجاور الآخر بمغناه وتذكاراته، والشالات الملوحة فيما بيننا على الدوام، على امتداد أسلاك الهدنة، والسياجات التي قاربتنا التصاقاً بنا حد الولع الآثم، وهي تشاركنا مراثي النكبة ومغناة العودة، تشاركنا سمرنا المتداول بيننا في جمر المواقد الملوعة علينا أكثر من تلوع طينها على حر جمره الكاوي، وتعيش من خلالنا على وقع المواويل التي يستذكر الوطن بكينونته الآسرة من ضفاف اليرموك حتى ذاك الثرى المسافر بين الجليل وعسقلان وجبل النار! لكنكم أيها العابرون الموت بقطارت اللاعودة إلى منافيكم الجديدة وخيامكم الممهورة باللارجوع الموصودة على نسيم فلسطين يغلقون الأبواب والنوافذ في وجهه ببصمة آثمة، مريبة، فكيف لكم بعد ذلك أن تتحرروا من لوثة البصمة ووجعها، ستحملونه ذكرى مريرة تلازمكم في عواصم شتاتكم الجديدة إلى مالا نهاية!

حالنا اليوم حال لا شبيه لها في الزمان، وهمومنا لا تحصى، وما سيذكره التاريخ عن هذه المرحلة الراهنة سيحمل من الغرابة والمستحيل ما يجعله في مصاف المرويات الأسطورية، ونظل في أعماقنا بالأمل وأرف الظلال، نؤمن بأن الوطن مر عليه الكثير فنهض وتعافى، والأمة مرّ عليها الكثير، فنهضت وتعافت، ضمن أجيال آمنت بالنهوض والتعافي.. صامدة رغم المحن والمكابدات فوق ثراها الذي صمد بعنفوان عبر الزمان، فهل لنا أن نكون كما الأوائل في لحظة الوعي أو المكاشفة؟

العدد 1105 - 01/5/2024