لك المجد أيتها الكلمة

حتى إذا هلّ الكلام..

نقول: كم..

روّى بنا شجرَ الأناشيد الدّمُ!!

حتى كأن الحبر.. نزفُ جراحنا..

وبكل جرح.. رعشةُ الحبر الفمُ!!

هكذا عشاق الكلمة، لا يذهبون بعيداً عنا، إذ يغادرون، ولا يغادرون، لأن رعشة حبرهم القاني ستظل تسري في عروقنا.. وكل رعشة بنا هي تلك الخفقة التي تحمل زمرة نقائها الأرجواني، فإذا بها تنتقل من شهيد كلمة إلى الذي يليه، وهكذا يستمر وجود الذي غادر، بالذي بعده، أو حتى يتوزع ذلك الوجود الأبدي في مجموع الذين يموتون بنشوة الحرف، ومداد الكلمة الأحمر، وكأن حقول المبدعين مفردة في صياغة مبدعيها، إذ هم وحدهم من استنبتوا الدم شقائق نعمان، وهم وحدهم من يملكون حق حضورهم الدائم خارج الغياب، وهم أيضاً وحدهم من تشير شاهداتهم إلى أنها أقلامهم التي رافقتهم خلال رحلة الحياة، وها هي ذي ترافقهم خلال رحلة الخلود، حيث صعودها العالي إلى ملكوتها المهيأ لها منذ الأزل يدل على أن بين وجودها وخلودها غابة من الهديل اسمها نشيد الروح ملهم الناي مغناه!

آه يا سلالة الطيور المهاجرة، كم تفزع أغصان الكلام، أنك غائبة عنها، وكم هي حزينة تمتمات السواقي، لأنك بعيدة عن وجع أناتها، وكم يشعر الورد على سياجات الذكرى.. أنه على غياب مغنيه، يذبل ويعتل ويموت! وحدها الشاهدات نشوى بتلك الأجنحة المتبقية من عبق الهديل البعيد، لأنها مع خفقة كل جناح، تخط على صفحة الغيب أسطرها التي نكاد نقرؤها بالبصيرة النافذة إلى ذلك الغيب: أن رحلة الكلمة في الوجود، تظل تُحوّم طيوراً خضراء في فلك الكون، وأن لغة أخرى تنهض في شاهدات تلك الطيور، صاعدة نحو الغياب البعيد، حيث كائنات أخرى هناك، ونايات وذائقات شفيفة كالنسيم، بانتظار من يشعل فيها الحياة بمغناه!

وحده سلطان المغنى الخالد، والكلمة الباقية، في ملكوت، يتناوب في الاحتفاء بمبدعيه القادمين، كما يحتفي ملكوت فلكنا الكوني بمبدعيه المغادرين، وبين ملكوت الأرض، وملكوت الغيب فسحة من الأمل، هي تلك الترنيمات الخالدة التي نسجتها وجدانات مبدعيها، فإنها دائماً تهبط علينا من ذلك الغياب، بحضورها الشجي، تبسط أجنحتها علينا، وتبدأ بعزفها المهيب، نذوب بشدوها، وشجوها، ونغيب حالمين، بوقعها الدافئ الحزين، حتى إذا صحونا، أدركنا أنا كنا غارقين بتلاوة نشيد الأنشاد وأسفار الغائبين الحاضرين وكتاباتهم بيننننا أبداً، وأن شقائق نعمان أخرى تنهض من الحبر الجوري الخالد.

العدد 1105 - 01/5/2024