«دوائر الخوف» للمفكر نصر حامد أبو زيد (2)…المرأة في خطاب النهضة والخطاب الطائفي

يرى أبو زيد أن الخطاب مشدود إلى بُعدين:

البعد الأول: وطأة التطور من خلال الاحتكاك بالمجتمعات الأوربية المتطورة، والاختلاط وما أحدثه من تأثير على أوضاع المرأة العربية.

البعد الثاني: التقاليد والتراث المتمثل في مبادئ الإسلام وتشريعاته.

نجد أن خطاب النهضة مدرك لقوانين الاجتماع البشري التي أسسها ابن خلدون، إذ إن أول مبادئ هذه القوانين هو اعتماد المصلحة وتحقيقها أساساً. وثاني تلك المبادئ أن المغلوب يقلّد الغالب دائماً في سلوكه وزيّه وشارته، والمبدأ الثالث، وهو الأهم أن التغيير قد يأتي ببعض المفاسد، ولكن يجب ألا تجعلنا نقاوم التغيير حتى لا نحرَم من الإيجابيات.

ويلاحظ أبو زيد أن خطاب النهضة يعارض مبدأ هاماً من مبادئ الخطاب الديني القديم والحديث على السواء، وهو المبدأ الذي صاغه بعض الفقهاء، وفحواه أن (درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح)، والحل الذي يطرحه خطاب النهضة عموماً علاجاً للآثار الجانبية للتقدم (الفساد)، هو التربية والتعليم اللذان من شأنهما حماية المرأة بل والرجل كذلك من تلك الآثار.

لم يكن من الممكن لخطاب النهضة أن يناقش مسألة مرجعية الشريعة، خاصة أن بنيته قد تأسست على أساس (عدم التعارض)، من هنا يتقدم قاسم أمين ويقرر أن تدني وضع المرأة في المجتمعات العربية الإسلامية وما فُرض عليها من حجاب وقيود، لا يجد تفسيره في الإسلام، وإنما في حالة (التخلف) التي تعيشها تلك المجتمعات. ويرى قاسم أمين حاجة العقل في فهمه للدين إلى مبادئ العلم والمدنيّة.

أما الطاهر حداد فقد تجاوز منطقي الدفاع والتبرئة وطرح فهماً شبه تاريخي عن دلالة النصوص المتعلقة بالمرأة، وأن هذه الأحكام غير نهائية وهي تتبع المجتمع الذي نزلت فيه، وهو مجتمع كانت فيه المرأة أقرب إلى العبودية، فحاول تحليل النصوص الدينية ليكشف عن الثابت في دلالة هذه النصوص، ويصل إلى القول (إن خطاب النهضة اقترب من حدود إنتاج وعي علمي بالدين، وبدلالة نصوصه، عبر فصل الديني عن الدنيوي.

غير أن أبو زيد يرى في خطاب النهضة خطاباً سجالياً أنتج مفاهيم على مفاهيم نقيضه: الخطاب السلفي، الذي غلب عليه الانتقاء والتلفيق بصورة عامة، وفيما يخص قضية المرأة لا يجد خلافاً جذرياً بتسليم كليهما بالفروق النوعية بين الرجل والمرأة، ويعزو أبو زيد ذلك إلى أن حركات الإصلاح الديني التي ظهرت في العالم الإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر لم تتمكن من إحياء هذا الفكر، رغم أنها كانت فعلاً حركات إحياء، وكان محمد عبده وجمال الأفغاني وغيرهما مشغولين بمسائل أكثر إلحاحاً وعمومية من القضايا الدينية. منها حركات التحرر الوطنية، محاربة الاستبداد. إذ يمكن تسمية حقبة عصر النهضة بتصلّب الفكر الديني.. أقصد أن هذا الفكر فقد حيويته التي كانت تتجسد عبر تعددية المدارس الفقهية والشرعية. ولم يقل أبو زيد إن هذه الحركات الإصلاحية لم تحمل شيئاً للفكر الإسلامي، إلا أنها لم تستطع إيجاد أرضية لإحداث تغيير اجتماعي، ومع ذلك يطرح السؤال: لماذا لم يُترجم فكر رواد النهضة إلى وقائع؟ يكمن الجواب في طبيعة الأنظمة السياسية.

وعلى ضوء مفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي يرى أبو زيد أن حقوق المرأة بها وسط الواقع الحالي رغم تجاوز مسألة تعليمها وخروجها للعمل ومساواتها بالرجل، إلا أن القوانين المنظمة لحركة المجتمع، ولاسيما الأحوال الشخصية، لاتزال تستند إلى مرجعية الشريعة التي لاتسمح إلا بقدر من الاجتهاد لايخرجها من الحالة التي تعانيها، إضافة إلى النصوص السجالية التي يبدو فيها تمييز بين الرجل والمرأة، فهي لها وضعيتها التاريخية، ويرى أبو زيد أن ذلك يتطلب منع تعدد الزوجات، وقضايا الإرث والقوامة، وكلها لها أسبابها التاريخية، وأسباب طرحها مرتبط بواقع المجتمعات ودرجة تطورها وتحضّرها، إضافة إلى أنها أحكام قابلة للتغيير بهدف تحقيق العدالة.

إن فصل قضية المرأة عن السياق الاجتماعي المحدد لمكانة الإنسان يؤدي إلى معالجة قضية المرأة بوصفها نقيضاً للرجل وضده.. كما تؤدي المنافسة إلى المقارنة بينهما، وهنا تبرز الفروق البيولوجية وما يدور حولها من فوارق عصبية وذهنية ونفسية ليصبح الرجل هو المركز، أبو زيد لا ينفي الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة وفقاً للشروط المحددة للوضع الإنساني، ولكن الخطاب سواء السياسي أو الاجتماعي ينفي هذه الشروط على حساب التركيز على البعد البيولوجي.

يقول أبو زيد في كتابه (دوائر الخوف) فصل (المسلمون والخطاب الإلهي- حقوق الإنسان بين المثال والواقع): إن إعلاء المعتزلة من شأن العقل وقيمة المعرفة كان عنصراً جوهرياً من عناصر حداثتهم، وبدلاً من التفاخر بالأنساب والعصبيات والأجناس، أُحلّت قيم العقل والمعرفة لتكون معياراً موضوعياً في تحديد قيمة الإنسان اجتماعياً ودينياً.

وقد احتكم العرب وباقي الأجناس التي دخلت الإسلام إلى العقل، إلا أن الخلافات تفاقمت خلال العصر الأموي والعصر العباسي، فبينما كان العرب يتفاخرون بنسبهم ولغتهم، اعتدّ الفرس بفلسفتهم وحضارتهم، ما عكس قيمة العقل أداة تتمتع بالمصداقية، غير أن ذلك انهار على يد الخليفة العباسي الذي طارد العقل والمشروع الاعتزالي معاً. ولا يمكن إغفال ثراء الثقافات الأخرى وتأثيرها في التاريخ العربي الإسلامي، خصوصاً الفلسفة اليونانية التي أنتجت ابن رشد والكندي وابن سينا وغيرهم.

لعل التناقض المحيّر في عصرنا الراهن هو الافتخار باللحظة التاريخية للحضارة العربية في أوج انفتاحها وتطورها مع الآخر، وفي الوقت نفسه الرفض المطلق لهذا الآخر مع استهلاك أدواته التكنولوجية والمعلوماتية، أسئلة طرحها المفكر برهان غليون في كتابه (اغتيال العقل) . ما هو مصدر هذا التناقض، هل الثقافة العربية أداة نهضة قادرة على استيعاب الحضارة الحديثة؟ ما الحداثة وما علاقتها بالنهضة؟ ما الهوية؟

(الواقع الاجتماعي بُعد مفقود في الخطاب الديني)، هو الفصل الثالث من (دوائر الخوف).

يتحدث أبو زيد فيه عن هزيمة العرب في حرب حزيران اعتبارها نقطة تراجع للنهضة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، كما تقهقر مشروع العدل الاجتماعي الذي طمحت إليه الناصرية. وفي الفترة نفسها لخص برهان غليون أزمة التقدم العربي: (إن الحركة القومية حرمت نفسها من مصدرين عظيمين للتطور والتغيير، منبع الفكر وحريته، ومنبع التنمية الاقتصادية والتصنيع السريع المتكامل والضروري.. وفي هذا الانهيار هبطت إلى أدنى مستوياتها أسهم الحلقات الأضعف في المجتمع العربي (العمال والنساء والفقراء).

وإذا كان هذا هو الانطباع عن هزيمة حزيران ،1967 فما هو انطباع الأجيال العربية التي ولدت وترعرعت في بؤرة النكسة وبعدها؟ من تطاحن داخلي وحرب الخليج بكل أكذوباتها، وراهناً الوضع الفلسطيني.

قد يكون من الصعب قراءة كتاب لتحصل على جواب مقنع، لكنه يساعدك على توضيح الكثير من الأمور ووضع أسئلة بدلاً من الأجوبة.

وأخيراً تناول في كتابه (القانون التونسي بين العلمانية المفترضة وجذور التراث الإسلامي)، واستعرض كتاب فاطمة مرنيسي الذي يتناول المرأة، وقانون الأحوال الشخصية في الخطاب التشريعي التونسي، متوجهاً في تحليله إلى المغرب العربي في أحد فصول الكتاب (الإسلام والديمقراطية والمرأة)، مستعرضاً دوائر الخوف من الغرب الأجنبي ومن الديمقراطية وحرية الفكر التي تناولها في سبعة فصول، موضحاً أن قضية المرأة في خطابها ليست قضية جنس (ذكر ومؤنث)، ولا قضية تخلف اجتماعي أو انحطاط فكري، ولا مجرد قضية دينية فحسب، بل هي إضافة إلى كل ذلك، أزمة السلطة السياسية في علاقتها بالناس منذ فجر التاريخ العربي.

هذا بعض ما ورد في كتاب (دوائر الخوف)، غير أن أهميته في درس الخطاب العربي المعاصر تتطلب دراسة وافية وشاملة لا يسعها هذا الحيز المتواضع من البحث. ولابد من الإشارة إلى أن كتاب (دوائر الخوف) محاولة جادة هدفها انتشال النصوص من القراءة التقليدية التي تدور في السياقات التاريخية، ولا تتمكن من تجاوزها، فالكاتب نقل القارئ إلى آفاق جديدة، وقدّم دلالات نافذة من دوائر الخوف، وفيه دعوة للتفكير والتحريض للخروج من تلك الدوائر.

ما تعرض له الرائد التنويري والمفكر المجتهد نصر حامد أبو زيد يظهر عمق الأزمة الحضارية في الوطن العربي، وهي أزمة حرية القول والفكر والنقد في وجه الأصولية الدينية.

العدد 1104 - 24/4/2024