لا… للهجرة!

(حاج تهاجرو)…. ما ظل حدا….

يلزمنا شباب للعمل….

(اللي بدو يروح، الله معو، ما رح ننطر حدا)….

جملٌ بتنا نقرؤها ونسمعها كثيراً، لا بل كثيراً جداً في هذه الأيام.

دموعٌ تغرق الأماكن، وداعٌ تلو الوداع، ولا سيرة نتحدث بها إلا عن السفر، عن الهجرة.

كما في كل أصقاع الأرض، في البلدان التي تنشب فيها حروبٌ ونزاعات، تصبح ظاهرة الهجرة واضحةً ومتجليةً، إلا أن ما يحدث في بلادنا يفوق ما حدث ويحدث في أي بلدٍ آخر، فأعداد المهاجرين، المغادرين دونما عودة، التاركين كل شيءٍ خلفهم دون التفاتةٍ للخلف ولو لبرهةٍ، وحسب استطلاعاتٍ سمعتُ عنها، تفوق ما حدث في الحرب العالمية الثانية!!!!

البعض يذهب بحثاً عن أمانٍ بات مفقوداً بعد أن هُدم بيته وقُتلت عائلته واغتيلت أحلامه، غير آسفٍ على شيء، والبعض يرحل بحثاً عن مأوى يتقي به وأولاده شر الحرب، وهؤلاء نجد لهم المبررات، ونقدم لهم الأعذار. إنما هناك من المهاجرين غير الآبهين بشيء، من لا عذر لهم ولا مبرر، فقط شدهم إلى السفر، الهجرة، الرحيل، ما بات موضةً بين الناس، فحينما نسألهم عن أسباب رحيلهم، يأتي جوابهم صفعةً قويةً، إذ يقولون: الجميع يرحل، فلماذا لا نغادر كما الجميع؟ الذين رحلوا ليسوا بأكفأ منّا، ولا بأحسن!!!!

هؤلاء الذين يتبجحون بخبراتهم وكفاءاتهم وشهاداتهم، يغادرون إرضاءً لذواتهم وأنانيتهم، تاركين خلف ظهورهم أسراً وأطفالاً، أمهاتٍ وآباء حققوا أحلامهم ذات يومٍ بهم ومن خلالهم، قاصدين البحر والتشرد والمشقات غير مبالين بما سيحدث لمن خلّفوهم وراءهم، ولا بما يمكن أن يتعرضوا هم أنفسهم له من مخاطر في مغامرةٍ كهذه، رافضين البقاء في البلاد في ظل الظروف التي تمر بها، بينما هي اليوم بأمس الحاجة إليهم، لاهثين وراء المجد الذي ينشدون، وراء أوربا جنة الأحلام، متوقعين أن الدول الأوربية تنتظرهم مفتوحة الذراعين لهم، تنتظرهم لتتطور وتستفيد من كفاءاتهم، وكأنها لا تمتلك من الكفاءات والخبرات والمهارات ما هو أكثر منّا تطوراً، غير متيقظين إلى أنها _ حين تستقبلهم _ ستتعامل معهم على أنهم مجرد أرقامٍ ومجموعة أوراقٍ، وباسم الإنسانية ستعمل على استنزافهم بشتى السبل والوسائل، إذ من المفيد لهذه الدول والأجدى لها اقتصادياً أن تستثمر كفاءاتٍ جاءتها بملء إرادتها فتستخدمها عمالةً تعمل من خلالها على تنمية اقتصادها بأبخس الأجور والتعويضات مقابل ما ستدفعه لمواطنيها، وهنا الطامة الكبرى، إذ إن كفاءاتنا المهاجرة تدرك هذا الأمر وتقبله بكل رحابة صدر وحماسة، بينما رفضت البقاء هنا ومد يد العون للبلاد في ظل الظروف التي تمر بها إذ إنها اليوم بحاجةٍ إلى أيدي أبنائها لدعمها اقتصادياً أو في أيٍّ من المجالات الأخرى التي لسنا بصددها الآن هنا.

في كل يوم، نشهد مواكب الشباب المهاجر تزداد وتتزايد، ولم يبقَ لنا سوى أن نحصي أسماء المغادرين وأعدادهم، وفي القلب حسرةٌ على هذه الفئة من الشباب التائه اللامبالي إلا بذاته وأنانيته، وفي الروح ألمٌ يتقطر على هذي البلاد التي ستصبح شيئاً فشيئاً خاويةً من الفئة الأكثر قدرةً على العمل والعطاء. وهذا ما يريده العالم بالفعل، أن نبقى تابعين خاضعين لهم، مستفيدين هم من خبراتنا ليطوروا أنفسهم ويحسنوا واقع معيشة مواطنيهم على حساب تخلفنا ودمارنا وهلاكنا، فنبقى سوقاً لتصريف منتجاتهم التي يترفع مواطنوهم عنها، ونبقى بحاجة إليهم على المدى، فيرفعون سعر عملاتهم مقابل عملتنا على أكتافنا وبسواعدنا، ألم نتضرر من ارتفاع سعر الدولار واليورو؟ إذ كل ما نحتاجه مرتبط بهما، من أبسط الحاجيات إلى أعقدها.. هذا الفارق الهائل والكبير في سعر الصرف، يعود بالأرباح الهائلة عليهم فيعالجون بها الأزمة الاقتصادية التي يمرون بها، بينما ندفع نحن الثمن من جيوبنا وأعمارنا ودمائنا.

في هذه الآونة  يتسارع الحديث عن حلٍّ للأزمة المعقدة التي نعيشها، ومن الممكن أن يحدث حقاً، فتنتهي الأزمة في البلاد، أليست البلاد في المرحلة المقبلة بأمس الحاجة لأيدي أبنائها ليرمموا ويعيدوا بناء الخراب والدمار الحاصلين؟

أين هم هؤلاء الأبناء؟

أين أصبحت تلك الكفاءات؟

ومن سيعمل على إعادة الإعمار والبناء إن غادرنا جميعاً وتركنا البلاد فارغةً؟

من سيكافئ البلاد التي كبّرته وعلمته وجعلته إنساناً، كفاءةً، وخبرةً؟

لكل هؤلاء المغادرين أقول: تيقظوا واقرؤوا التاريخ جيداً.. وخذوا العبر مما حصل لغيركم….

ولكل لمن لا يزال يفكر بالرحيل أقول: هذه الأعباء المادية التي ستتحملونها مقابل الرحيل، والتي منكم من سيستدينها، أو سيبيع ممتلكاته.. إلخ. سخّروها أموالكم لخدمة هذه البلاد وتنميتها، وعيشوا مع أهلكم وبين أطفالكم، بدلاً من أن تكونوا سلعاً يُتاجر بها، وأموالاً تدر الأرباح الهائلة على تلك البلدان التي ستستنزفكم، وفي النهاية سترميكم كما رمت من سبقوكم، بعد أن تنتهي مهمتكم عندها، وتنتهوا أنتم أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024