الغربة.. وجع وحنين وانتظار

كم هو صعب فراقك يا ولدي، كم هو صعب فراقك يا أمي، هو ذا لسان حال الأم  الوطن، أو لسان حال الأبناء، الذين يقول لهم الوطن الأم، هاهي حقائبكم موضبة خلف الباب يا أبنائي، حقائبكم الفارغة أصلاً، فليس عندي، ما أملأ به تلك الحقائب سوى الدموع، التي ستملأ عيني لحظة الفراق، تلك الدموع التي ستمنعني من رؤية آخر ملامح وجوهكم في اللحظات الأخيرة، عندما تلوحون بأياديكم، تلويحة الوداع، وأنتم تهرولون للحاق بالعربات الأخيرة في قاطرة الفراق، ومن فوق أسطح السفن المهاجرة بكم، كهجرة السنونو، ومما يزيد في وضع الملح على الجرح، أن السنونو ستعود في هجرة معاكسة في الربيع القادم، أما أنتم سيطول انتظاركم لربيع قد لا يأتي، أو سينتظركم ربيع قد لا تأتون به.

هجرة الشباب هي انتقال وابتعاد قسري عن الوطن الأم، وبالتالي عن المجتمع الذي نشأ به هؤلاء الشباب، وعن العائلة والأهل، ولم تكن يوماً ما انتقالاً وابتعاداً اختيارياً، فلو وجد المهاجرون، الظروف الصحيحة في وطنهم لما هاجروا بالتأكيد.

الأزمة السورية الحالية هي تتويج لأزمات سابقة متلاحقة، دفعت بجيل الشباب للهجرة خارج الوطن لتأمين العمل ولقمة العيش التي لم يجدوها أو كان من الصعب أن يجدوها في وطنهم، أو لمتابعة الدراسات العليا التي بخل الوطن بتقديمها لهم إن كان من ناحية تخلف المستوى الأكاديمي، أو من ناحية التخلف في المستوى الاقتصادي والتعليمي، وعدم اهتمام الوطن بالكثير من الدراسات العليا، وعدم الاهتمام بتأمين العمل لخريجيها من الكفاءات التي سيخسرها المجتمع والدولة حتماً، في وقت يكون الوطن بأمس الحاجة إلى هذه الكفاءات.

ومن أسباب الهجرة القسرية أيضاً عدم شعور الشباب بالأمن والأمان، في مجتمع سادته الخلافات الطائفية والعقائدية والسياسية، وتقسيم الناس، إلى مع أو ضد، حسب تقييمات جاهلة بأبسط حقوق الإنسان في إبداء الرأي والتعبير.

هما أمران أحلاهما مرٌ، أن يختار الشباب الغربة الكبرى عن الوطن، بعد أن ذاقوا مرارة الغربة الصغرى، بالتشرد والجوع والبطالة وهم على أرض الوطن.

هجرة الشباب، حدثت وتحدث في كل زمان ومكان،من وطننا العربي، لا سيما  في الزمن الحالي، الذي يفيض بالمشكلات المتعددة، وينوء بالمشكلات المتنوعة، والكوارث السياسية والاقتصادية والأمنية.

ليست هجرة الشباب أمراً جديداً، فهي حدثت منذ قرن من الزمان باتجاه الدول الغربية، ولنفس أسباب الهجرة الحالية، بحثاً عن الرزق أو التعليم، أو هرباً من الظروف الأمنية والسياسية، ومازالت الأسباب مستمرة منذ ذلك الزمن البعيد، فعربة التخلف العربي، مازالت بلا دواليب تحركها، ما زالت تقف بجمود في مستنقع التخلف.

في الأدب العربي عرفنا أدب المهجر، ومازلنا نذكر القصيدة الشهيرة للشاعر المهجري الياس فرحات، التي يصف فيها معاناة الأمهات في انتظار أولادهن الغائبين في البلاد البعيدة، تلك القصيدة التي يقول فيها:

أنفقت عمرك ترقبين رجوعنا

 وتجوس كل سفينة عيناك

وقضت ملوعة الفراق، وعينها

تجتال بين الباب والشباك

هي آلام الأم التي تنتظر أولادها المهاجرين، تعاني آلام الفراق ووحشة الدار الخالية، ومازالت الأمهات خلف الأبواب ينتظرن خبراً سعيداً عن أبنائهن، بانتظار انفراج السماء الكالحة، وعودة الشمس لتشع من جديد، ربما تحين الفرصة لعودة الطيور المهاجرة.

العدد 1105 - 01/5/2024