مرة ملوناً بحفاوة وأخرى مقتصداً….الفنان التشكيلي مجدي الحكمية وحكاية الوجوه والأقنعة

 أول ما تُقيمُ عين المتلقي علاقاتها الحميمية مع لوحات الفنان التشكيلي السوري مجدي الحكمية، فإن الفكرة الأولى التي سيأخذها عن شغل هذا الفنان،؛ هو أنه فنان يعشق الألوان، وأسلوبه يظهر بوضوح مرجعية الخطاب المُباشر في اللون حتى لو تمت تغطيته بعدة طبقات من الألوان، ورغم كل هذا الجلاء اللوني الذي يُفعم به الحكمية بياض لوحته، غير أن المجاز دائماً هو ما تكون لعبته التشكيلية، من خلال المواربة التي يُشكلها في تكوينات لوحته، لاسيما تلك الوجوه التي يُقدمها في مختلف تنويعاتها، وجوه مرة بأقنعة، وطوراً بإظهار الكائن الحيواني المُخبأ داخل الكائن البشري، وحيناً بالوجوه التي تلبس الأقنعة حتى يحتار المرء أين يبدأ القناع، وأين ينتهي الوجه.

على اختلاف الوجوه

لوحات مجدي الحكمية على اختلاف انتماءاتها، وهي بكل الأحوال تقترب من المدارس التقليدية لكن دون أن تكون (تلميذة نجيبة) فيها، كلها تنطق بقدرته، وتمكنه من أدواته وتفرد موضوعاتها، عدتّه في ذلك تكنيك عالٍ في معالجة الموضوع، وتجسيد الفكرة، وتشخيصها، أو قل التشخيص الذي كان من الفعاليات التشكيلية أيضاً، وربما من أهم ما ذهب إليها الحكمية في مدى البياض.

إذاً (الإنسان) بمكوناته التشكيلية من خطوط وتلوين وتحوير يتماهى في الصورة البصرية للعمل ككل، وهذا يقودنا إلى تركيب العمل بمجمل عناصره، هذا التركيب المبني على الإحساس التلقائي، ومن ثم تكون السجية المتماهية مع الموهبة هي الضابط في الخلق الفني، مما يسبغ على العمل الفني المصداقية، لهذا يأتي النتاج متوافقاً مع الذائقة الجمعية فيستقبله المشاهد بكل هذه الأريحية، ويتضح من شخوص الحكمية التي يرسمها بتشكيلات مختلفة أنه يقدمها بإحساس تعبيري ووجداني في تكوينات متجاورة في أحيانٍ كثيرة، ليبعث فيها الروح التائهة في فوضى ومجاهل اللاجدوى.. وأحياناً أخرى يُقدمها في تكوينات متداخلة بإحساسه الشخصي، ليبعثر الألم والقهر على شدتهما، وليبني فكرته على أساس من التجربة والخبرة الناتجة عن الاحتكاك المباشر بأصناف مختلفة من البشر..

بناء الأسلوب

منذ بداية شغله الفني، يسعى الفنان التشكيلي السوري مجدي الحكمية إلى بناء أسلوب متميز في تشكيلاته اللونية، أسلوب يمكنه من إقناع ألوانه بالتآلف والتواصل مع أجواء الموضوع الذي يحتفظ به خلال تجربته التشكيلية، والحكمية من خلال التساؤلات التي تطرحها لوحاته، التي تتمحور في مجملها حول التقنية والأسلوب، تجعل من الصعوبة بمكان حصر شغله التشكيلي في صفوف مدرسة فنية بعينها، فلا نستطيع أن نضعه في صف التجريديين كمدرسة، ولا التعبيرية البحتة، وأنما ثمة استعراض في لوحاته لقدراته التأليفية والتلوينية، ويطرح في سبيل الوصول إلى جمالية تجعل للوحته بصمتها التشكيلية الجديدة التي تميزها، كل ذلك تحقق له بهذه الغنائية اللونية ببصمتها التعبيرية التي تكسر حدة المدارس الفنية، بهذه الحركة الإيقاعية المتصاعدة من وتيرة الرسم بلمسات لونية عفوية أحياناً، تُعبّر عن الحرية العاطفية في التعاطي مع الجوهر التكويني والتلويني.

وهنا يُمكن أن نُميز ثلاثة مستويات في شغل الحكمية، تلك المستويات التي أعطت أسلوبه خصوصيته، وبصمته التعبيرية التي كانت أشبه بالانعطافات في مسار التجربة، او هي تنويعات فيها، والتي كانت طول الوقت غواية الحكمية، وأما هذه المستويات؛ فهي: المستوى الأول؛ وهو الذهاب أكثر صوب الاهتمام بتفاصيل الوجه، وذلك لإظهار ما أبعد من الوجه، لإحضار (المُخبأ) داخل الكائن، وهذا ما تشي به غير لوحة.  المستوى الثاني؛ وهو الاشتغال أكثر على البعد البحثي في بناء اللوحة، وصولاً للبعد الفلسفي، وهو هنا يقترب من الوجودية دون أن يتقصد ذلك، وأنما هو الانفعال الوجداني الذي ينحو بهذا الاتجاه. هذا البعد الذي يكشف فلسفته اللونية، او غايته في جماليات التشكيل.

وإذا كان الحكمية في المستويين السابقين؛ يُظهر كل ذلك بما أوتي من ملكة لونية، فإن المستوى الثالث سيذهب صوب الاقتصاد باللون، وأقصد شغله (الغرافيكي) وهذه المرة أيضاً عدّته ستكون لونية، لكنها في هذه المجموعة من الأعمال ذات الألوان المختصرة، التي هي أعمال لها علاقة بما يُعانيه الإنسان، بمعنى أنها تُجسد عذابات هذا الإنسان في هذا الزمن. هذا المستوى الذي يبدو أقرب لحالة مستمرة، تتخللها بعض (الاستراحات) النفسية لكنها ضمن التجربة بشكل عام، ولا تُفارقها.

الوجه والمرأة

في تنويعات اشتغاله التشكيلي نرى الحكمية؛ يجنح نحو تأكيد رغبة الانفلات من إطار المدرسة، للاستفادة المطلقة من مختلف الأجواء التشكيلية والتقنية والمتحررة والحديثة، ومن ثم كان نتاجه الفني، الذي جاء بكل هذه التنويعات التشكيلية التي تدور موضوعاتها حول أمور محددة، لعلّ من أبرزها كان الجسد، هذا الجسد الذي برز بتكوينين: الوجه، وجه الإنسان بالمطلق، وليس بتحديد جنسه، ثم كانت والمرأة بكل ما يُمكن أن يحمله (تشخيص المرأة) كجيد من جماليات وحمولات فكرية أيضاً تتنوع من المثيولوجيا وحتى الجمالي الخالص، كما لا ينسى أبداً المرور من بوابات السوريالية، لكنه لم يتخل عن تأكيده منذ البداية على تجاوز معطيات الفنون التقليدية، والتأكيد على هواجس التمرد لديه منذ انطلاقته الأولى، فهو ينحاز بقوة نحو الاتجاهات التعبيرية الحديثة لإيجاد الدلالات الإيحائية لعناصر التناغم اللوني والكتلوي عبر لوحاته المُتفاعلة مع لمسات اللون التلقائي، ومع مظاهر الخطوط السريعة، والعلاقات اللونية وحركاتها المتنوعة؛ التي تبرز كفواصل موسيقية تُرضي الأحاسيس والمشاعر الإنسانية الصافية التي تتوق نحو الجمال وسحر الانبثاق الجديد.

يبحث مجدي الحكمية عن تنويعات وتغيرات في التصميم للوصول إلى مناخ الصياغة المختصرة، او المنبسطة لتحسس إيقاعاتها في مراحل التحوّل من الواقعية إلى التعبيرية، والوصول إلى جمالية اللمسات اللونية المتتابعة والمتراقصة المبنية على عناصر عاطفية عبر إيماءات التبسيط التكويني والتلويني التي تترك أثرها الواضح على سطح اللوحة، وهو بذلك يتجاوز الدقة التصويرية المتعارف عليها، وذلك بانشغاله على مساحاته التشكيلية، والتي تبرز بصيغتين أساسيتين، واحدة يعتمد فيها على اللمسات اللونية العفوية التي يستعرض من خلالها إيقاعات الأشكال الخارجية وأجواء عوالمه الداخلية، وأخرى تعتمد الحركات اللونية الغنائية والمتشابكة، التي تُقدم البصمة التعبيرية الخاصة.

ألوان وخطوط

يُمارس الحكمية لعبة التقاطعات اللونية أحياناً، وذلك في إشارة إلى انفعالية تعتمد أكثر على حركة اللون الأسود وتدرجاته، كما ألوان الأزرق والأخضر والأصفر، ويُبدي اهتماماً آخر بإبراز الجانب المعماري للعناصر التشكيلية، على الرغم من ميله لإضفاء الحالة الداخلية الانفعالية في حركة الخطوط والألوان، وهذا ما يجعل العناصر التشكيلية المتجاورة تنفلت من الرزانة البنائية قليلاً غير أنها تبقى متماسكة في المساحة البصرية، كما ينشد الحكمية في لوحاته رموزاً يوزعها على المساحة البيضاء، وهذا يمنح اللوحة قرباً أكثر من توجهات الفن الحديث، حيث السطح التصويري ذي الملامس الخشنة أحياناً. على الرغم من بروز إيقاعات متأثرة بتكاوين التراث الشرقي في بعض اللوحات، وهي مُستعادة من الذاكرة البعيدة، ربما الطفلية على وجه التحديد.

العدد 1105 - 01/5/2024