الآثار النفسية المحتملة للهجرة

تعد الهجرة من الظواهر الاجتماعية القديمة التي عرفتها البشرية منذ قرون بعيدة، ولكن اتسعت حدتها في السنوات الاخيرة فيما يتصل بدول المنطقة العربية بصورة عامة، ولاسيما السّوريين والعراقيين ومن قبلهم الفلسطنيون وما زالوا، وذلك نتيجة للحرب الجاثمة على أراضي البلاد. الهجرة الكثيرة من الانعكاسات السلبية، إذ يتعرض المهاجرون لمتغيرات عدة تطرأ على العائلة كتركيبة اجتماعية واحدة، من حيث التغيير الذي ينصبّ على العلاقات داخل العائلة، وعلاقة العائلة بالمجتمع الجديد ومؤسساته. إذ إن هذه الأسر المهاجرة من بلداننا العربية جميعها تحمل جذور تركيبة تعود للسّلطة الأبوية، وعند عيشها في البلدان الأوربية على سبيل المثال سوف يطول التغيير التّركيبة العائلية التّقليدية، التي كانت ترى من أولوياتها الحفاظ على التّركيبة الأسرية كما كانت في الوطن الأصلي، لأن في ذلك ضمانة للاستمرار والبقاء، هذا النوع من الأسر في الأعم الغالب سوف يقع مع مرور الزمن في إشكاليات مع مؤسسات المجتمع الجديد، أو في أحيان كثيرة تحصل مشاكل داخلية عديدة نظراً لاختلاف الرؤى بين جيل الآباء المحافظ، وجيل الأبناء الصاعدين والقادمين، الذي يترعرع وينمو ويتربى في ظروف جديدة، وهناك من الأسر من يحاول أن يمزج بين تقاليد الماضي ومتطلبات الحاضر، كما يعبر عن ذلك الدكتور رياض البلداوي، استشاري الطب النفسي والتحليل النفسي ورئيس مركز الشرق العلاجي والتأهيلي في العاصمة السويدية ستوكهولم.. في كتابه: (الهجرة المجهولة)، فهو يسمي هذا النوع من العائلات بالعائلة الاندماجية، أما النّموذج الأخير فهو ما يسميه المؤلف بالعائلة المنصهرة، هذه العائلة التي تحاول أن تحطم كل ارتباط لها مع التّركيبة القديمة لتعوضها بتركيبة تريد منها أن تكون مطابقة كما تتصورها التّركيبة العائلية في البلد الجديد، هذا النوع من الأسر يتعرض للكثير من التّحديات في العلاقات العائلية، خاصة الدّاخلية منها حيث يسود الجهل بالأسس التي تقوم عليها العائلة في بلد المهجر.

إذ في الوقت التي قد تؤدي الهجرة الى تحسن الاحوال المعيشية لأسرة المهاجر، تظهر آثار اجتماعية ونفسية عديدة ولاسيما على الآباء من المهاجرين بسبب تناقض الدور الذي كان يؤديه كل منهم في بلده عن الدور الجديد في البلد الجديد، اذ تتساوى الحقوق والواجبات بين أفراد العائلة مما يخفف من إحساس الابوين بتراجع دورهم الطبيعي الذي نشؤوا عليه في موطنهم الأصلي، فالحرية الشخصية مصونة ومقننة، والمساواة بين المرأة والرجل لها أهمية خاصة ومضمونة بقوانين وقواعد صارمة، كل هذا يتطلب من المهاجر استعداداً كاملاً ومرونة كبيرة للتغيير، وإلاّ وقع في تصادم مع الواقع الجديد الذي قد يؤثر في العلاقة بين الزوج وزوجته، أو بين الوالدين وأبنائهم. كل هذا ينعكس على الوضع النفسي والاجتماعي للفرد خاصة عند أولئك القادمين من خلفية اجتماعية وثقافية قبلية أو عشائرية متزمتة وبعيدة جداً عن ثقافة بلد المهجر.

من الاثار السريرية والنماذج السلوكية التي قد يبرز أثرها على نمو الاطفال وتطورهم في البلد الجديد، أثر الصّدمات التي خبرها آبائهم من قبل، كالتّعرض للاضطهاد أو السجن أو التّعذيب لأسباب سياسية أو المشاركة في الحرب وغيرها، كل هذه العوامل سوف تترك آثاراً عميقة على أعضاء الاسرة ككل، ولاسيما الأطفال، وعادة لا تبرز هذه الآثار على السّطح إلا عندما يستقر هذا الإنسان في بلد المهجر، ويشعر بالاستقرار والطّمأنينة والأمن، فتبرز هذه الصّدمات على شكل قلق أو كآبة. وتُحدد العلاقة التشخصية بين القلق والتّوتر الطّبيعي المصاحب لعملية الهجرة، والتّأقلم كرد فعل طبيعي على المتغيرات المصاحبة لهاتين العمليتين، ذلك القلق المرضي يكون كرد فعل على الصّدمات التي تعرض لها الأب أو الأم مسبقاً، وقد يحصل ذلك أيضاً نتيجة للظروف القلقة للغاية أثناء زمن الهجرة وخلال العبور في البحر غير الآمن، والمواقف المتعثرة التي قد تحصل على حدود البلدان المقصودة.

 ومن الآثار النفسية المحتملة بشدة أيضاً ما يقع على المرأة السورية المهاجرة، والعربية بصورة عامة، إذ تمثل هجرة المرأة هجرة لعادات الوطن وأعرافه التي تحملها المرأة في وجدانها وتعمد إلى إرسائها في حياة أفراد أسرتها.

وأيضاً من الآثار النفسية الشديدة الوطأة المحتمة ما يقع للمهاجرين من ذوي الكفاءات العلمية أومن هم من مكانة اجتماعية جيدة في الموطن الأصلي، فأصحاب المكانة الاجتماعية المحترمون من أساتذة جامعات وأطباء ومهندسين وغيرهم من ذوي السويات العلمية المتقدمة.. إلخ يجدون أنفسهم مرميين في مراكز الاستقبال مع المهمشين والمصابين بشتى أنواع الاضطرابات النفسية والعقلية..

وتبقى للخسارات المادية والرمزية التي يتعرض لها اللاجىء من منزل وممتلكات ووظيفة والعلاقة مع الارض (الوطن)… هذه الخسارات تأخذ أهميتها من المكانة النفسية التي يحتلها الموضوع المفقود، وسلسلة التّوظيفات الواعية واللا واعية التي تم توظيفها عبره وفيه..

العدد 1105 - 01/5/2024