البنات هنّ حياة ولسن همّ حياة

 في العصر الجاهلي، كان بعض العرب يئدون بناتهم المولودات حديثاً، وفي العصور الوسطى وحتى وقت قريب من العصور الحديثة، كان قسم كبير من الرجال يكتئبون حينما ينجبون بنتاً، ومن الأمثال التي تحاول تفسير سبب اكتئاب العربي لإنجاب الأنثى، مثل شعبي شائع بكثرة (همّ البنات للممات).

البعض يرفض تماماً هذه النظرية ويعتبرها جهلاً وتخلفاً يجب محاربته والقضاء عليه، وفي الوقت الراهن يؤكد الكثيرون أن البنت صارت (بسعر) الصبي، ويتحدث البعض عن أن البيت الذي يفتقد لحسّ الفتيات تكون أجواؤه جافة وتغلب عليه الكآبة، فالبنات هنّ عادة من يمنحن البيوت أجواء الحركة والرقّة.

لكن في المقابل، يؤكد آخرون أن القضية ليست تخلفاً أو جهلاً، فالبنت تبقى همّاً على كاهل أهلها حتى يموت الأهل، فمنذ أن تصبح مراهقة يبدأ الخوف عليها من أن تقع فريسة ذئب بشري ما يقضي على سمعتها، وبالتالي على مستقبلها، وتكون تحركاتها هاجساً لأهلها إلى أن تتزوج، وحينئذ تبدأ معاناة أخرى تتعلق بطريقة تعامل الزوج مع الابنة، وهل سيحسن معاملتها أم سيسيء إليها، وهذا هاجس آخر لأهلها، وإذا طُلّقت الابنة ترجع بهمّها الثقيل إلى بيت أهلها، ويعانون من هاجس وضعها بعد الطلاق، خاصة في ظل ما تعانيه المطلقة في مجتمعنا من مواقف اجتماعية سلبية حيالها، حين تُسمّى بحكم المجتمع العربي (مطلّقة)! وبالتالي القضية غالباً لا تتعلق بالأهل أو بآرائهم، بل بخوفهم من كلام الناس ونظرة المجتمع الذي يعيشون ضمنه.

يُضاف إلى هذا وذاك الخوف من أن لا تتزوج، فتُسمى عانساً بكل ما تحمله هذه الصفة من معانٍ وفظاظة اجتماعية قاسية. والخلاصة في رأي الفريق الثاني أن (همّ البنات للممات) وهو لا يقارن مع همّ الذكر الذي سرعان ما يزول عن كاهل أهله حالما يشتد عوده ويستطيع الاعتماد على نفسه، بل إنه قد يكون هو ذاته، أي الذكر، مُعيناً لأهله.

أما في ظل الحرب السورية وما أتت به على مختلف أفراد المجتمع السوري وخاصة على الفتاة ضمن ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة فرضت نفسها عليها بطريقة وحشية، فإمّا أن تكون قوية وعاملة ومثقفة وتطالب بحقوقها مثلما تُطالب بواجباتها، ويُطلق عليها المجتمع أبشع الألقاب والتسميات فقط لأنها تجاوزت وحطّمت كل القيود التي فرضها المجتمع عليها منذ قرون، وإمّا أن تلتزم البيت خوفاً من الوحوش البشرية التي صوّرها لها المجتمع خوفاً على شرفها وعفّتها، وأن ترسم حياتها وفقاً لقوانين مجتمع واقع في مستنقع من الأكاذيب والأمراض والأوهام التي لا صحة لها ولا وجود على أرض الواقع إلاّ في حالات نادرة جداً، وهي بتلك الحالة تكون وقعت ضحية خوف أهلها وخوفها من مجتمع فارغ ومجرد من الإنسانية والضمير، فقتلت نفسها وحياتها التي أتتها بيديها.

و بالتالي قضية المثل الذي زرع الخوف لدى الأهالي أن (همّ البنات للممات)  تعتمد في المرتبة الأولى على مستوى الوعي الفكري والثقافي لدى الأهل، وفي المرتبة الثانية على نوعية المجتمع الذي نعيش فيه، فكل مجتمع يخضع لقوانين ومبادئ وأسس تربّت عليها الأجيال الناشئة وتختلف من مجتمع إلى آخر.

العدد 1105 - 01/5/2024