سُلَّم الأولويات في قاموس ثقافة الاستهلاك

إن تفشي ظاهرة الاستهلاك في مجتمعنا بعد أن وجدت فيه البيئة الخصبة والمناسبة لنموها وتحوّلها من مجرد ظاهرة إلى ثقافة مجتمعية على نطاقٍ واسع، تقوم على عدة عوامل وأسس، من أهمها الاندفاع الشديد الرغبة في الحصول على المتطلبات سواء أساسية أو كمالية مهما كان الثمن باهظاً أو مكلفاً، والتمكّن من القدرة على الإقناع بأهميتها.

فإن كانت تلك المتطلبات تُصنّف في مجال أساسيات الحياة، فهذا ما يمكن تبرير السعي لتحقيقه، أما وأن يكون السعي الحثيث لتلبية احتياجات تُعتبر كمالية، فهذا ما لا يمكن الاقتناع به. والفرق بين ما هو أساسي وما هو كمالي فرقٌ واضحٌ وبسيط، فالأساسي هو ما لا يمكن الاستغناء عنه لضمان استمرارية الحياة مهما كانت الظروف المعيشية صعبة أو قاسية كالغذاء والمسكن مثلاً، أما الكمالي فإن التوصيف كفيلٌ بتفسير المعنى على أنه ما يمكن الاستغناء عنه لفترة ريثما تصبح الحالة المعيشية أفضل وبعد أن تتم تلبية كامل الاحتياجات الأساسية.

إلاّ أن شيئاً ملحوظاً لم يعد بالإمكان التغاضي عنه، نظراً لنتائجه الوخيمة العواقب والتي لا تطول فقط الشخص نفسه، وإنما تتعداه لتمسّ الوسط المحيط من أسرة أو مجتمع، هو ما يدفع لتناول هذا الموضوع. ونظرة واحدة على الأسواق تؤكّد ما نقوله، فبالرغم من شظف العيش، نرى مفارقات عجيبة وغريبة، بين من يمدّ اليد متسولاً حتى قطرة الماء، وبين من يُسرف بطريقة فظّة، فالأسواق التي تشهد ارتفاعاً خيالياً في الأسعار، لا تزال تحظى بجمهور واسع من الزبائن، إن كان على مستوى الموبايلات مثلاً، أو الموضة المتعددة الأشكال…

(فالموضة لم تعد تقتصر على اللباس فقط، بل إن عمليات التجميل، أو السعي الحثيث واللاهث للوجود في أماكن الترفيه المُفتتحة حديثاً أضحت في نطاق الموضة)، وما يُثير الدهشة والاستغراب أن قسماً كبيراً من هؤلاء الزبائن هم ممن هُجروا أو نزحوا من مدنهم وقُراهم، أو من أبناء العائلات المحدودة الدخل والتي أغلبها، ولاسيما في ظلّ الحرب الحالية، تتخذ بيوت الإيجار مسكناً لها، نجد الشخص منهم، شاباً أو فتاة، يقطن في مأوى جماعي ليس له فيه إلا بضعة أمتار إن صحّ القول، ويقف طيلة اليوم أمام أبواب الجمعيات التي تُقدّم المعونات الغذائية أو الدوائية، وبالمقابل يمتلك أحدث الموبايلات، ويرتدي أو ترتدي ثياباً من أرقى الماركات وأغلاها، ويتضح من معالم وجهه/ا أن عمليات التجميل فعلت فعلها!!

وحسب زعم أحد أصحاب محلات بيع المكياجات والإكسسوار فإن هؤلاء يُشكّلون مصدر الرزق الأكبر، فالزبون/ة يأخذ ما يأخذه دونما حتى أي استفسار عن الأسعار وفي النهاية يدفع المبلغ المطلوب مهما كان، ويخرج!

ولأننا نعيش وضعاً معاشياً واقتصادياً قاسياً لم يسبق له مثيل حتى في مرحلة الثمانينات التي تعرّضت فيها البلاد لحصار اقتصادي صعب، يتبادر سؤالٌ ملحٌّ على الذهن: من أين لك هذا؟

ونظراً لأن فرص العمل لا تتناسب وحجم البطالة الموجودة، وإن توافرت فإن الراتب وحده غير كفيل بتأمين تلك الأمور، فمن وجهة نظري السؤال مشروع وبديهي… إلاّ أن كثرة السرقات، كظاهرة من إحدى الظواهر التي كنّا بالأمس نستهجنها ونرفضها، إضافةً إلى ظاهرة الدعارة العلنية المنتشرة في الشوارع، هذا ما يبيح التساؤل.

لست أقصد أن كل من يتابعون أحدث ما في الموضة هم من هذه الشريحة أو تلك، بل إن شرائح أخرى منها من يقبل العيش على حساب الآخرين، أو أولئك الشبان أو الفتيات ممن يفرضون على أهاليهم تأمين متطلباتهم مهما كلّف الأهل ذلك من جهد وتعب، فباتوا لا يقنعون بما يقدَّم لهم، بل يطلبون المزيد، مُقارنين أنفسهم دوماً بغيرهم وأنهم ليسوا بأقل من ذاك الغير!

وبتقديري فإن للتربية دوراً مهماً وأساسياً فيما وصلنا إليه، فحينما نلبي لطفلنا كل طلباته منذ صغره، ودافعنا هنا يكون من منطلق حبنا له وكي لا يعيش ما عشناه من فقر، فإننا بذلك نُعوّده على الطلب المستمر والمتواصل، وبالتالي عدم الاكتفاء بما لديه، وبأن قيمة الإنسان تتحدد بما يملك من أمور مادية، وليست بما يمتلكه من وعي وقدرات خلاّقة يستطيع من خلالها تغيير واقعه… وعلى هذا فإنه سيزيد من كم الطلبات وحجمها ، وما إن يُلبى أحدها حتى يطلب غيره وهكذا إلى ما لا نهاية… ويجد هؤلاء الأشخاص المبررات التي يحاولون إقناع الآخرين بها وبأهمية متطلباتهم وبضرورة السرعة في تلبيتها، فمبدأ الأولويات يختلف من شخص لآخر… إذ ما أراه أنا أولوية ربما يجده غيري ثانوياً، ومن هنا يضمن هؤلاء الأشخاص تحقيق ما يرغبون به.

ثم إن ذاك الطفل أو تلك الطفلة اللذين ينشأان في أسرة تمتهن التسول أو السرقة أو الدعارة، ماذا يمكنه أن يحمل من قيم أخلاقية أو مجتمعية أو إنسانية؟ بكل بساطة سينمو ويكبر وكأن ما نشأ عليه هو الطبيعي وبالتالي سيمتهن هذه المهن ذاتها ، ومن ثم سيربي أولاده فيما بعد على نفس المنوال، وشيئاً فشيئاً، سنصبح أمام مجتمع لا يحمل من مقومات المجتمع إلاّ الاسم فقط، أفراده فاقدون لكثير من القيم والمبادئ إن كان على المستوى الأخلاقي أو النفسي أو الاجتماعي والأسري، فتتصاعد وتيرة تفككه ويزداد تبعثره وتخلفه وتستشري فيه جملة من الأمراض والمعتقدات التي لا تمت للإنسانية بصلة، فيما نظن أنفسنا أننا نواكب الحضارة والتطور.

 

العدد 1105 - 01/5/2024