العلاقة بين الثقافة والأخلاق

ترى ما هي الحدود الفاصلة بين الثقافة والأخلاق، إن كان ثمة حدود بينهما؟

قبل الحديث عن الفصل أو التواصل والاتصال وتماهي الحدود، لابد لنا من تعريف للثقافة وللأخلاق في علاقاتهما التبادلية، وتأثير كل منهما بالأخرى.

 أحد تعاريف الثقافة في اتصالها مع الأخلاق أن الثقافة طريقة تفكير، ونمط حياة، وهي بالتالي رؤيا للتمييز بين الضار والنافع في السلوك، ولا قيمة تذكر الثقافة لا تقترن بالممارسة العملية في الواقع.

فإذا كانت الثقافة هي ما يساعد على تحديد الخيارات الأكثر سلامة وصوابية، فهي مرتبطة بعرى وثقى مع الحياة اليومية.

أما الأخلاق فهي منظومات قيمية تشرعنها الشعوب متوخية تنظيم حياتها، بصياغة مُثل فردية وجماعية، تساعد على الانضباط الفردي والمجتمعي، وتؤطر إلى حد بعيد العلاقة المتشابكة بين الفرد والمجتمع في وحدة التشكل والصيرورة الاجتماعية والفردية معاً.

الأخلاق لا تتشكل بمعزل عن علاقات الواقع المتداخلة، ولكل مرحلة تاريخية مفرزاتها الأخلاقية وقيمها المهيمنة، ولا يمكن النظر إليها إلا من خلال مفهوم التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية دون أن نغفل دور الأفراد في ذلك، فمن المستحيل الحديث عن وحدة أخلاقية في المجتمعات الطبقية.

في المجتمع المشاعي سادت منظومة أخلاقية تستند إلى العمل الجماعي، وعدم الاستئثار بالناتج الاجتماعي (الصيد)، فكانت المحبة واللحمة الاجتماعية هي القيم السائدة..
ومع ظهور الملكية الخاصة، بدأ حب التملك والأثرة بالظهور والتنامي، مع تقدم عملية التراكم، وهكذا سيطر الجشع وحب التملك، وانتشرت بذلك روح العدوانية وتراجعت مشاعر التآخي وتفككت الوحدة الاجتماعية.

أما مع المجتمع الإقطاعي فيتحول الإنسان فيه إلى قوة قاهرة قمعية لا تكتفي بالسيطرة الكاملة على الأرض وسيلة الإنتاج الأولى، بل أصبح الفلاحون عبيداً جدداً يخضعون كلياً لملكية صاحب الأرض الإقطاعي.

في المجتمعات الرأسمالية، حيث يصبح الربح هو القانون والهدف الأعلى للرأسمالية الاحتكارية المتوحشة، يعيش الإنسان مرحلة اغتراب واستلاب،
تقضي على ما تبقى لديه من قيم أخلاقية إنسانية، ويصبح التسابق والتطاحن من أجل جمع المال القيمة العليا في المجتمع (معك قرش تساوي قرشاً)، وبهذا تتراجع القيم الإنسانية من حب وتضحية وإيثار وروابط اجتماعية.

إذاً الثقافة تتواشج مع الأخلاق، ومن الصعب، بل من المستحيل، الفصل بينهما، فما هو أخلاقي يصبح مع الزمن ثقافياً، وما هو ثقافي يتحول في الممارسة العملية إلى منظومات قيم، إن أضاعها الفرد والمجتمع تحولت الحياة إلى جحيم وعدنا إلى أخلاق الغابة، القوي فيها يأكل الضعيف.

تشتد أهمية القيم الأخلاقية في الأزمات، والمحن تكشف معادن الناس، وتحدد المدّعين المتبجحين بالثقافة الناطقين باسمها، كما يظهر المثقفون الحقيقيون الذين يمارسون حياتهم بصمت دون أن يفصلوا بين ثقافتهم وما يؤمنون به نظرياً، وممارستهم الحياتية.

تبقى الثقافة حاجة إنسانية تتطور البشرية بتقدمها، والناس يصنعون أنفسهم عندما يشكلون ثقافتهم، كما أن ثقافتهم تساهم في إعادة تشكيلهم ووضعهم على سكة السلامة بخياراتهم الموفقة،
ومحك الثقافة الممارسة، فلا قيم أخلاقية بلا ثقافة، ولا أهمية لثقافة لا تمارس على الأرض وتساهم في تشكيل منظومات القيم كالوطنية وحب الخير والعدل والحرية والجمال، تلك القيم التي لا معنى للإنسان والإنسانية من دونها، وهي ذات صفات عامة إنسانية تتمتع بثبات نسبي، إذا ما قيست بالقيم المتغيرة، المرتبطة بشكل مباشر بنمط الإنتاج الاجتماعي.

والسؤال الأهم هنا:
ما هو الأخلاقي، وما هو غير الأخلاقي؟ فكل ما يساهم في تقدم الإنسانية ويساعد الإنسان على تلبية حاجاته الجسدية والمعنوية، ينضوي تحت مفهوم الأخلاقي، وكل ما يعيق تفتح الإنسان وتقدمه وازدهاره وغناه المادي والمعنوي، هو لا أخلاقي، وعلى المثقفين أن يعززوا القيم الأخلاقية في المجتمع، ويكونوا القدوة في عملية تأصيل المنظومات الأخلاقية الدافعة إلى التطور والتجديد والتقدم الذي لا يتحقق إلا بالاعتراف بحق الاختلاف وصيانة التنوع وضمان حريتي الرأي والتعبير.

 

العدد 1105 - 01/5/2024