التجارة والصناعة في ما لا يلزم..!!!

في شارعنا الصغير الذي لا يتجاوز طوله المئة متر، عدد كبير نسبياً من محلات التجميل النسائية، بمختلف اختصاصاتها المكتوبة بالخطوط الجميلة والملونة على واجهاتها: باتاكير، ماناكير، تاتو، إلى آخره من هذه المصطلحات، وكذلك عدد من محلات التجميل والحلاقة الرجالية أيضاً، وحتى الطبيب الموجود في الحارة، مع أن اختصاصه داخلية، هضمية، يكتب على لوحته، شفط، حقن، إلى آخره من عمليات التجميل العديدة، وطبيب الأسنان كذلك، صار يعلن عن إجراء ما يلزم من عمليات تجميل الأسنان، وبالتأكيد كل تلك الأشياء الوارد ذكرها، غالية الثمن والأجر، مع أنها غير ضرورية على الغالب، وبإمكان الإنسان العاقل الاستغناء عنها تماماً، ولكن يقول المثل الشعبي: رزق الهبل على…،

وفي هذا الشارع أيضاً عدة محلات تبدو فاخرة الديكور والترتيب لبيع أجهزة الاتصالات الحديثة غالية الثمن، ومثلها محلات الثياب والأزياء العصرية التي هي عبارة عن ما يسمى صرعات موسمية استهلاكية، وسعرها يفوق إمكانية أي دخل مهما كان جيداً للكثير من الناس، ومع هذا نجد ازدحاماً ملحوظاً على تلك المحلات من الشباب والشّابات، الذين يعملون على تبديل أجهزة اتصالاتهم وألبستهم بشكل متكرر، وشراء غيرها كل فترة قصيرة من الزمن حسب الموديلات والموضات الموجودة في السوق وبسرعة خيالية أحياناً، كما هو الحال في الازدحام على صالونات وعيادات عمليات التجميل الجراحية.

قبل الحرب، التقيتُ بشابّة أجنبية، جاءت ضمن وفد ثقافي، من بلاد مشهورة بأنها بلاد الموضة والأزياء، قالت لي بأن لا أحد من الشباب والصبايا في بلدها يهتم بتلك المحلات، إلاّ في المناسبات المعروفة والخاصّة كحفلات الأعراس، وبعض الحفلات العامة، فهم دائما يخرجون بلباس عادي جداً، وربطة شعر عادية دون أي تزيينات مُضافة، وتابعت قولها: لقد مشيت في شوارعكم فوجدت أن زينة الشباب والصبايا عندكم، وكأنهم في حفلة عرس دائمة، وهذا يعني أن الاهتمام بالمظاهر طاغٍ، أكثر من العمل والإنتاج والدراسة، إضافة إلى أنه يستنزف القدرة المادية والوقت والاهتمامات المفيدة للإنسان، وكل تلك المظاهر لا حاجة لها، ويمكن تجاهلها بالكامل.

رغم الشكوى من ضعف الدخل والحالة المادية السيئة للكثير من العائلات، إلاّ أننا نلحظ تهافت شبابها وشابّاتها على الاندماج تماماً في هذه الثقافة الاستهلاكية السيئة، على حساب الكثير من القيم والحاجات الأساسية الضرورية، هذه الثقافة التي تستنزف الكثير من الأموال، فتُرهق الأهل مادياً، على حساب قضايا أهم للبيت والأسرة.

يبدو أن شكل الإنسان وهيئته ومظهره الخارجي في مجتمعاتنا المأزومة، صار خاضعاً للفن والتجارة، مثلما صار بضاعة وسلعة وصناعة لها اختصاصيوها ومروّجوها وبائعوها وأدواتها، ولها مصانعها ومتاجرها واستثماراتها، مع أنه لفترة غير بعيدة من الزمن، كان اعتقاد الأغلبية من الناس، وحتى الشباب والشابات، بما تعلمناه من الدروس الأولى في المدارس، بأنه (ليس الجمال بأثوابٍ تزيننا.. إن الجمال جمال العلم والأدب).

بالتأكيد ما زالت الغالبية من الناس تعتمد هذا المبدأ الطبيعي في الجمال، مبدأ العلم والأدب والإنسانية، قبل النظر إلى جمال الشكل والقوام والملامح، التي يمكن صناعتها والتلاعب بها لفترة من الزمن، ما تلبث أن تزول ليبقى فقط جمال الروح والنفس والعقل.

ويمكن ببساطة أن يتخلى جيل الشباب، أو أيّ أحد من المهتمين بأمور الزينة والموضة، وأمور الحداثة في أجهزة الاتصالات، والتجميل المُصطنع والمُصنّع، عن كل هذا بالاقتناع، بل والإيمان بأن الشكل الطبيعي مهما كان، يبقى أفضل من عمليات التجميل والزينة المصطنعة المبالغ فيها، وإن الأجهزة هي خادمة للاتصالات فقط مهما كان نوعها وموديلاتها قديمة كانت أم حديثة، لأن الأموال التي ستُصرف على هذه الاهتمامات، قد يصعب تأمينها، لذا يُخشى من جنوح الشباب نحو تصرفات خاطئة وغير لائقة للحصول على تلك المتطلبات والكماليات، وبالنتيجة هي اهتمامات ترفيهية غير ضرورية بأيّ شكل، سوى للمظاهر المخادعة التي لا تُعطي قيمة للإنسان.

شكل الإنسان ومظهره، ولباسه، والأجهزة الحديثة التي يملكها، هي قيم متغيرة وغير ثابتة، يعمل الزمن على تغييرها، ولن يبقى للإنسان سوى العلم والثقافة الواعية الفعّالة، والعلاقات الاجتماعية الحميمة، وهي الثوابت الباقية الحقيقية بين الناس.

العدد 1105 - 01/5/2024