التفكير العلمي والتغيير الاجتماعي

الربط المحكم بين التفكير العلمي والتغيير الاجتماعي هو سمة مميزة لعقيدة التنوير، سواء في شكلها البرجوازي الثوري القديم، أو في شكلها العمالي الثوري الحديث الممثل بماركس وإنجلز. بل يمكن القول إن جوهر مشروع التنوير يكمن في هذا الربط المحكم بين التفكير العلمي والتحول الاجتماعي. هذا هو جوهر ما يسمى الحداثة.

إن بحثنا في العلاقة بين التفكير العلمي والتغيير الاجتماعي هو في جوهره بحث في جانب أساسي من جوانب عقيدة التنوير، تلك العقيدة الكونية الجديدة التي لا سبيل إلى إغفالها، وبخاصة من قبل عرب اليوم، الذين هم أحوج ما يكونون إلى استيعابها نقدياً في سياق عودتهم إلى التاريخ ودخولهم الحاضر والمستقبل.

والسؤال الجوهري هنا: بأي معنى يرتبط التفكير العلمي بالتغيير الاجتماعي في عقيدة التنوير؟

1- الملاحظة الأولى في هذا الصدد هي أن عقيدة التنوير تؤكد أن العلاقة بين الطرفين علاقة جدلية، أي ضرورية وتبادلية. فالواحد ينتفي من دون الآخر. فلا معنى للتغيير الاجتماعي من دون التفكير العلمي. كما أن التفكير العلمي لا يكون علمياً إذا لم يكن يهدف إلى التغيير الاجتماعي، بل وإذا لم يكن انعكاساً معرفياً للتغيير الاجتماعي.

2- أما الملاحظة الثانية فهي أن هناك ارتباطاً جدلياً ضرورياً بين التفكير العلمي والإنتاج الاجتماعي. إن كل إنتاج اجتماعي يستلزم معرفة وينطوي على معرفة.

3- إن التفكير العلمي بصفته تفكيراً مؤسسياً سائداً تاريخيّ في جوهره، بمعنى أنه ولد وازدهر ونما تحت ظروف تاريخية معينة، وقد ينحسر ويتراجع، بل قد يندثر ويتلاشى، تحت ظروف تاريخية أخرى. وهو عملية اجتماعية تاريخية معقدة تستلزم جملة من التراكمات التاريخية والظروف الاجتماعية والمادية المتطورة.

4- إن التفكير العلمي يربط بين الخاص والخاص، وبين الخاص والعام، وبين العام والعام، عبر منهج دينامي من التحليل والتفكيك والشك وإعادة التركيب والتجريد والنمذجة والاختبار والتخيل التجريبي والتجريب المتواصل والتنبؤ وتوسيع فضاء الإمكانات. فهو قوة ثورية عاصفة. لذلك، فليس كل حضارة بقادرة على تحمله. ويمكن القول إن أول حضارة استطاعت تحمله، بل وعملت على خلقه وتنميته ورعايته، هي الحضارة الرأسمالية الحديثة، وذلك بفضل حاجتها الإنتاجية الضرورية إليه.

5- إن التفكير العلمي بحكم تكوينه الداخلي يدخل في تصادم مع جميع العقائد الدينية والفلسفية، وبضمن ذلك عقيدة التنوير التي يشكل أساسها. لكن صدامه مع عقيدة التنوير ليس تناحرياً. إنه أقرب إلى التوتر الخلاق منه إلى التناحر. إن العلاقة بين الطرفين هي علاقة نقدية أكثر منها نقضية تناحرية. وعلينا ألا ننسى هنا أن إحدى الوظائف الرئيسية لعقيدة التنوير هي حماية العلم من الأيديولوجيا اللاعقلانية والدفاع عنه. وتدخل العلاقة النقدية بين الطرفين في نطاق هذه الوظيفة. فالعلم وعقيدته يحميان بعضهما بالنقد. إنها علاقة صحية تدفع الاثنين على درب التقدم. هذا فيما يتعلق بعقيدة التنوير. أما فيما يتعلق بالعقائد الأخرى، وبخاصة العقائد الدينية الشمولية قروسطية الطابع، فإن علاقة التفكير العلمي بها هي علاقة صدامية تناحرية بالمطلق. لذلك كان محتماً على العلم أن يصطدم بالعقائد السائدة والمسيطرة في العصور الوسطى.

6- إن الدور الضروري للتفكير العلمي في التغيير الاجتماعي يتجلى أكثر ما يتجلى في علاقته بالتنمية والتحديث. ونعني بعملية التحديث التجديد المتواصل للقاعدة الإنتاجية وبناها وعلائقها بما يرفع كفاءتها وأداءها وفاعليتها. والسعي إلى التحديث بهذا المعنى هو سمة جوهرية من سمات الحقبة الرأسمالية الحديثة. ويظل التحديث شكلياً وسطحياً ما لم يتضمن تحديث الوعي الاجتماعي. وأعني بتحديث الوعي الاجتماعي إعادة تركيبه على أساس القيم العلمية والعقلانية العلمية وإكسابه عادات التفكير العلمي.

7- إن التفكير العلمي نقدي في جوهره. لكن دور النقد في العلم الطبيعي ليس مماثلا تماماً لدوره في العلم الاجتماعي. فالعلم الطبيعي ينتج معرفة بصدد موضوعه بالنقد الذاتي المتواصل. بل إنه يستنطق موضوعه بالنقد الذاتي، باستنطاق ذاته. فهو يُخضع باستمرار الأفكار التي ينتجها وأي أفكار أخرى بصدد موضوعه لحمض النقد والاختبار. فهو يحلل هذه الأفكار ويعيد تركيبها ويختبرها نظريا وعمليا، ومن ثم يبين مدى انسجامها معاً ومدى مطابقتها لواقع الطبيعة. لكنه يقبل الطبيعة على علاتها ويجابهها بصفتها معطى حسياً معيناً. أما علم الاجتماع فيذهب أبعد من ذلك. ذلك أنه يشكل جزءاً من موضوعه. كما أن موضوعه ليس معطى، وإنما هو خلق بشري تاريخي مضمخ بالقيم والمعايير البشرية. فدراسته إذاً هي دراسة الإنسان لذاته. وعليه، فإن الحقيقة في مجاله ليست مجرد موضوع معطى للمعرفة، وإنما هي هدف يسعى المرء إلى تحقيقه وتجسيده واقعاً. من ثم، فإن علم الاجتماع لا ينتج معرفة بصدد موضوعه إلا في سياق تغيير هذا الموضوع. أو قل إنه لا ينتج معرفة بصدد موضوعه بالنقد الذاتي، أي نقد ما ينتجه من أفكار بصدد موضوعه، فقط، وإنما أيضا بنقد موضوعه في سياق تغييره، أي ببيان عنصر الزيف والاستتار والاغتراب والكبت في موضوعه. وعليه، فإن علم الاجتماع الجدير بهذا الاسم ليس مجرد أداة موضوعية حيادية تسخرها الطبقات التاريخية في صراعاتها، وإنما هو تجسيد مباشر لوعي الطبقة المطلقة الثورية في المجتمع البشري، الطبقة العاملة. إنه تجسيد مباشر للصراع الطبقي، للوعي الثوري في المجتمع، لإرادة التغيير الثوري الاجتماعي. فليست الفلسفة وحدها تجسيداً للصراع الطبقي على الصعيد النظري، كما ذهب الفيلسوف الفرنسي الراحل لوي ألتوسير، وإنما يشاركها في ذلك أيضا علم الاجتماع، المادية التاريخية نفسها. وهو المؤهل لإنتاج المعرفة بصدد موضوعه بالضبط لأنه ينقد موضوعه في سياق تغييره ثوريا، لأنه يرفض تكريس الكائن وتأبيده وتجميده، لأنه يرفض الاعتراف بديمومة الاغتراب والزيف والاستبداد والاستغلال ويسعى إلى تحقيق الحق والخير والجمال في حياة الإنسان. في هذه الفكرة بالذات يصل التحام التفكير العلمي بالتغيير الاجتماعي أوجه، تصل عقيدة التنوير إلى أوجها الفعلي.

 

عن (مركز الدراسات وأبحاث الماركسية واليسار)

العدد 1105 - 01/5/2024