الحب في زمن آخر

حين نقرأ الأزمنة قراءة موضوعية، بكل تجلياتها وأبعادها، بكل ما تحمله لنا من حمولات مرهِقة أو مريحة. وحين لا تأخذنا اللعبة إلى دهاليزها لنختبئ أو نتوارى أو نلوذ، وحين ندرك أن اللعبة خرجت عن سياقها التقليدي، ولم تعد للتسلية فقط، حينذاك يحق لنا أن نتأمل جيداً كيف نحب، وكيف نعيش اللعبة المفروضة بكثير من الإيجابية، مبعدين عن سلوكنا كل فكر يقود إلى نهاية لم تكن مدرجة في سياق اللعب.

وكما للحب طقوس تجعل منه حالة إنسانية ممتلئة بالحاجات والرغائب، فإن للعبة أيضاً قوانين تجعل منها (حين ينضبط اللاعبون) معبراً إلى ضفة أكثر خضرة وجمالاً. اللعبة فاصل بين زمنين، زمن ما قبل اللعبة، وزمن ما بعدها. وما يجعل النتيجة أكثر جدوى مهارة اللاعبين، واحترامهم بعضهم لبعض، وتقبّل النتيجة بروح رياضية مهما تكن. فكثير من الخاسرين ألعابهم ينتصرون في النهاية حين يتداركون أخطاءهم، ويتجاوزونها، حين يرممون أماكن العطب في أدواتهم، ومكامن الخلل في خططهم. وكثير من المنتصرين ينهزمون بغرورهم، وبيقينهم من صلاحية الخطط لكل الألعاب، فيكررونها دائماً، ينتصرون مرة، وينهزمون مرات.

الحب ليس لعبة فقط، فهو سلوك الروح حين تبوح، حين ترتعش برقصة لا تعادلها رقصة، وهو تحليق في فضاء لا يحدّه حدّ، ولا تؤطره سماء. هو السمو بنبل، والعطاء بوفرة، والانحياز التام لمن نحب. وهو بهذه المعاني يؤسطر ذاته ضمن نصوص قلّما تُكتب أو تُؤرّخ. فكم من قيس لم يكتب شعراً لليلاه؟! وكم من عنترة لم نسمع بسيرته؟! كم من (جول جمال) قضى حباً لتراب وطنه من دون أن يذكره أحد؟! وكم من مسيح ونبي وقدّيس ورجل دين أفنى حياته مضحياً في سبيل سعادة قومه وخلاصهم؟!

ما أحوجنا الآن إلى الحب! أن نبحث عنه بين تخوم أرواحنا لنعيشه، لنبتعد به عن همومنا الصغيرة، لنعطي من نحب، وما نحب، جل ما نستطيع من عطاء. لنثبت أن الحب أعظم بكثير مما نعتقد، وأنبل بما لا يُقاس مما نؤدّي. الحب في زمن الرخاء يتهدّل باسترخاء وتكاسل مستسلماً بلذّة لحالة خدر يظنها أبدية، وسرعان ما تتكشف عن حقيقتها الزمنية المتمثلة بلحظة عابرة في نهر أبدي متدفق. فهل ننتظر انكشاف تلك الحقيقة؟ وهل سنعيها حين نكتشفها؟ أم أننا نترهل أكثر ونسترخي؟ نستسلم لحالة نظنها حباً، وما هي في الحقيقة سوى ترف آني نتلاعب فيه، أو لعبة نلعبها بكثير من الجهل بمعاني الحب ومتطلباته؟ والحب في زمن الشدة مرآة صقيلة لا تُظهر سوى حقائقنا، صور وجوهنا، وجوهر الروح فينا، فإما أن نكون كائنات جميلة، وإما أن نكون أشكالاً جوفاء مشوّهة. وإذا أدركنا أن القافلة ستسير، سواء كنا داخلها، ومن الحريصين على سلامتها، أم كنا من الناشزين بأصواتنا وبأرواحنا. ولأن الرحلة ستنتهي كما تنتهي كل الألعاب، يحق لنا أن نتأمل بعد وصولنا بسلام أداءنا وسلوكنا بنظرة متمعّنة ومتأنّية إلى الوراء، واسترجاع مراحل الرحلة اللعبة، حينذاك نتصارح ونتحاسب بهدوء، وبحب شديد نتحاور، فنختلف أو نتفق على زمن قادم، حافل بالرحلات والألعاب المكشوفة والمتخفية، واضعين أمام عيوننا الفوز النهائي برضاً وحب.

العدد 1105 - 01/5/2024