النظام الأبوي البطريركي وتشكيل الشخصية العربية (1من2)

النظام الأبوي البطريركي هو بنية اجتماعية متميزة ناتجة عن شروط وظروف تاريخية واجتماعية وثقافية تتكون من سلسلة من المراحل التاريخية والتشكيلات الاجتماعية المترابطة فيما بينها، إذ ترتبط كل مرحلة منها بمرحلة انتقالية تسبقها، حتى تصل إلى مرحلة النظام (الأبوي الحديث). ومن الناحية البنيوية فالنظام الأبوي يتكون من طرائق التفكير والعمل والسلوك، ويرتبط بنمط معين من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي التقليدي السابق على الرأسمالية. وهو يتخذ من المجتمع العربي شكلاً نوعياً متميزاً يقابل المجتمع الحديث، من خصائصه قابليته وقدرته على الاستمرار وعلى مقاومة التغير، والمحافظة على القيم والعصبيات العشائرية والأعراف التقليدية القديمة.

وعلى الصعيد الاجتماعي يهيمن النظام الأبوي على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تغلب عليها الانتماءات القبلية والطائفية والمحلية، لأن المجتمع الأبوي هو نوع من المجتمعات التقليدية التي تسودها أنماط معينة من القيم والسلوك، وأشكال متميزة من التنظيم. وهو يشكل بنى نوعية متميزة تتخذ أشكالاً مختلفة، من بينها بنية المجتمع الأبوي العربي، الذي هو أكثر أبوية وأشد تقليدية وأكثر محاصرة لشخصية الفرد وثقافته وترسيخاً لقيمه وأعرافه الاجتماعية التقليدية وتهميشاً للمرأة واستلاباً لشخصيتها، لأنه ذو طابع نوعي وامتداد تاريخي وخصوصية ترتبط بالبيئة الصحراوية والقيم والعصبيات القبلية التغالبية.

ومن المعروف أن العالم العربي هو أعظم موطن للبداوة، مثلما هو أكثر مناطق العالم تأثراً ومعاناة في الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة، كما أشار إلى ذلك علي الوردي، ذلك الصراع الذي لا يزال يؤثر في بنية الثقافة وسمات الشخصية العربية.

تمتد جذور النظام الأبوي العربي إلى النظام القبلي الذي يقوم على صلة الدم والقربى والعصبية القبلية، وتكوَّن من شروط تاريخية وجغرافية وثقافية، وذلك عن طريق سيطرة الثقافة البدوية على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، عن طريق نظام القبيلة (المشيخة) الذي كان بديلاً للدولة وإدارتها، كتنظيم اجتماعي يقوم على العلاقات العشائرية. وعلى الرغم من أن الإسلام حاول تغيير البنية القبلية وجاء بمفهوم (الأمة) بديلاً لمفهوم العصبية القبلية، إلا أن النظام القبلي بقي مهيمناً على المجتمع والدولة، إذ استمرت القيم والتقاليد في تأثيرها على العلاقات الاجتماعية. كما استمرت الصحراء العربية برفد القرى والأرياف بموجات بدوية مستمرة خضع لها سكان الأرياف والمدن وتأثروا بقيمها وأعرافها وعصبياتها، وذلك بسبب ضعف الدولة المركزية، بعد سقوط الدولة العربية  الإسلامية وعاصمتها بغداد على يد هولاكو عام ،1256 ومما سبب هيمنة النظام القبلي والمحلي على المجتمع، وبصورة خاصة على بنية العائلة الممتدة في علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية واستمرت حتى العصر الحديث بشكل أو بآخر، برغم دخول كثير من عناصر التحديث إليها، لأن الدولة الحديثة لم تكتمل أو تنضج بعد، وكذلك مفهوم الوطن والمواطنة والهوية، التي ما زالت مفاهيم هلامية أولاً، ولأن تركيب بنية العائلة العربية في شكلها الأولي لا يختلف كثيراً عن تركيب بنية القبيلة العربية لعصر ما قبل الإسلام، إلا في بعض مظاهرها الخارجية التي تأثرت بالتحديث، وليس في سلوكها ومضامينها وقيمها وذهنيتها ثانياً. كما أن النظام الأبوي هو بنية سيكولوجية ناتجة عن شروط تاريخية وحضارية نوعية تكونت من مجموعة من القيم والأعراف وأنماط من السلوك التي ترتبط بنظام اقتصادي تقليدي له خصوصية، وبواقع اجتماعي حي، وليس مجرد خاصية من خواص نمط إنتاج معين بالعالم العربي.

ومن أهم خصائص النظام الأبوي التقليدي أنه يقوم على العصبية القبلية وتماهي الفرد مع القبيلة التي تبادله الولاء، بوصفها مسؤولة على الصعيد الاجتماعي والسياسي عن كل فرد من أفراد القبيلة. وهو ما يؤدي إلى تعزيز النظام القبلي القائم على العصبية، الذي يجعل من العائلة حجر الزاوية في البنية الاجتماعية، كما تفترض أن بنية القبيلة هي (كل) لا يمكن تجزئته باعتبارها عائلة موسعة أو عشيرة أو مجموعة من العشائر التي تكوِّن القبيلة، التي تعزز كيانها بسيطرة مزدوجة: سيطرة الأب على العائلة، وسيطرة الرجل على المرأة، والولد على البنت، بحيث يبقى الخطاب المهيمن هو خطاب الأب الذكر وأوامره وقراراته.

وقد اتخذت (الأبوة ) صفتها من صلة القربى والدم، وضرورة احترام الابن لأبيه، والقيام على خدمته. وما زالت تقاليد تقديم الابن فروض الطاعة لأبيه واحترامه مستمرة حتى اليوم. كما أن احترام الابن لأبيه هو الاحترام نفسه لعشيرته مركزاً في شخص واحد يمثلها هو شيخها. وفي الحقيقة فإن سلطة الأب ما هي إلا مظهر فردي لسلطة القبيلة. ورغم مرور مئات السنين بقي المجتمع العربي مجتمعاً قبلياً يتكون من وحدات اجتماعية أساسها القرابة التي تتمثل بالعائلة، التي هي جزء من الحمولة فالفخذ فالعشيرة فالقبيلة فاتحاد القبائل الذي يشكل المجتمع بأوسع صوره.

وتتكون الأسرة العربية من عدة عوائل عموماً، وهي أسرة ممتدة كبيرة الحجم التي تشكل السمة الأساسية لبنية العائلة العربية حتى منتصف القرن الماضي، وتضم كل المتحدرين من جد ذكر واحد وينصهرون في وحدة واحدة، ويحمل جميع أفرادها اسم الجد الأول للأسرة.

وفي الأرياف العربية ترتبط بنية العائلة ارتباطاً وثيقاً بأسلوب الإنتاج الاقتصادي السائد، والعلاقات الاجتماعية التي تشكل الأرضُ والزراعة ركيزتَها الأولى والأساسية، وتعكس بشكل واضح بنية النظام القرابي الذي يقوم على التضامن والتماسك والتعصب العائلي في مواجهة المشاكل والأعباء والصراعات مع العوائل الأخرى ومع الحكومات وغيرها. ولذلك تحتاج العائلة إلى تكثير النسل لرفد الأرض بأيدٍ عاملة ذكورية كثيرة والزواج المبكر، ومن داخل العائلة (ابن العم وابنة العم) وكذلك تعدد الزوجات الذي تفرضه وحدة العمل في الأرض.

وهكذا بقيت العائلة العربية الممتدة حتى وقت قصير تشكل وحدة اجتماعية إنتاجية، بفعل استمرار الظروف والشروط البنيوية لتطورها حتى نهاية القرن التاسع عشر.

ومن المظاهر السلوكية التي لا تزال تفعل فعلها في إعادة إنتاج العلاقات القرابية، الميل إلى التقارب السكني في منطقة واحدة أو مدينة واحدة أو في محلة واحدة، وتوثيق علاقات القرابة بحضور المناسبات العائلية المختلفة، وبخاصة في مناسبات الزواج والأعياد والوفيات وغيرها.

وما زال الزواج الداخلي يشكل النموذج المفضل لدى كثير من العوائل العربية الممتدة. كما يمتد النظام الأبوي  البطريركي العربي إلى تشكيلات السلطة التي ما زالت تعتمد على النفوذ العائلي، وما زالت التكتلات العائلية والعشائرية والطائفية تلعب دوراً هاماً وبارزاً في كثير من القرى والأرياف وحتى في بعض المدن العربية. وليس من النادر أن نجد أفراد قبيلة واحدة أو طائفة واحدة أو مدينة واحدة أو منطقة واحدة يسيطرون على السلطة والدولة والمجتمع ويتحكمون برقاب الناس. وهذا دليل على أن السلطة الأبوية ترتكز على العائلة الممتدة، التي هي النمط القرابي السائد، الذي يمتد إلى النظام السياسي الحديث ويستمد شرعيته من كونه نظاماً قرابياً أبوياً، يطرح الحاكم نفسه فيه على أنه (الأب القائد)، وأن جميع أفراد الشعب هم أبناؤه، وعليهم جميعاً واجب تقديم الطاعة والولاء والخضوع له دوماً، وفي الوقت ذاته ينتظر (الأب القائد ) من أبنائه الولاء المطلق له. إن هذه العلاقة التي تحكم بين الرئيس والمرؤوس، في العائلة والقبيلة والطائفة والدولة، هي شكل من السيطرة الأبوية الهرمية التي تقوم بين الحاكم والمحكوم.

ويرتبط بالنزعة الأبوية الاستبدادية مشاكل وتحديات واجهت المسألة السياسية التي لا تزال مطروحة حتى الآن، فقد بقيت الحرية وأزمة الدولة والسلطة دونما حل لتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبقيت مجرد أمنية بعيدة عن التحقيق. ومعنى ذلك أن المسألة السياسية لم تكن تشكل محور سؤال النهضة، ما عدا بعض الإرهاصات النظرية، كما جاءت عند عبد الرحمن الكواكبي وابن أبي الضياف التونسي والحسني النايني، التي بقيت حبراً على ورق. ومنذ استقلال الدول العربية والسعي لتحقيق الدولة القومية ذات المضمون الاجتماعي- السياسي وتأسيس قواعد قانونية ثابتة تقوم أساساً على الفصل بين السلطات والعدالة والمساواة أمام القانون وتحقيق المواطنة الحرة، مازال العالم العربي يشهد غياباً شبه كامل لمثل هذه القواعد القانونية والدستورية، وانحساراً كبيراً في شرعية السلطة والتفرد بها وبصنع القرار. مما يفسح المجال لإعادة إنتاج، بل وترسيخ ما قبل الدولة القومية بمكوناتها الإثنية والقبلية والطائفية، وتحول الولاء إليها على حساب الوطن والدولة والهوية الوطنية. وهذا يعكس في الواقع تناقضاً صارخاً بين المبادئ المثالية التي وضعها رواد النهضة لقيام دولة حديثة وبين تطبيقاتها العملية في الواقع.

ويعود الفشل في الحقيقة إلى أن المشروع القومي كان مجسداً في شخصية قانونية ليست اعتبارية، لذلك لن يكون من السهل تحقيقه بالشعارات الرومانتيكية، وإنما بإرادة الشعوب العربية المشروطة بتجاوز التناقضات الداخلية، الإثنية والدينية والقبلية والطائفية، التي تنخر في جسد المجتمعات العربية وفي الدولة القطرية المصطنعة. وقد عبَّر قسطنطين زريق، وهو من كبار المفكرين القوميين العرب، عن قلقه وتوجسه من إشكالية الاندماج القومي والوطني والمجتمعي الهش في العالم العربي، وعدم الاعتراف بالتعدد والتنوع الإثني والديني والطائفي في الواقع العملي، إلى جانب الفراغ المؤسساتي الذي ارتبط بالنزعة الأبوية الاستبدادية وعدم الأخذ بطموحات الثقافات الفرعية الأخرى. فرغم مرور أكثر من نصف قرن على استقلال الدول العربية الشكلي، مازلنا نعيش وهم الدولة القومية، بعد أن تحولت إلى أنظمة استبدادية فردية، ملكية كانت أم جمهورية، قومية أو يسارية أو إسلامية، تنعدم فيها أبسط الحريات الفردية، ولا يستطيع المواطن فيها تخطي الخطوط الحمر التي تضعها الأنظمة المستبدة والتي ترتبط بالمقدسات والمحرمات والأعراف والعصبيات العشائرية. (لقد ضحَّى العرب بقضية الحرية والديمقراطية في سبيل الاستقلال والوحدة، فخسروا الوحدة والاستقلال والحرية والديمقراطية).

والحال، كان من نتائج الاستبداد والتخلف وقمع الحريات هذه الردة الحضارية التي يعيشها العالم العربي اليوم، التي أنتجت دولاً بوليسية تتسلط بالقوة والبطش على جميع مؤسسات الدولة والمجتمع بأيديولوجيتها الشمولية، وتحتكر السلطة للهيمنة على المنظومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وكذلك القوى الاجتماعية، باسم الأمة والشعب والقانون. وكذلك تماهي الرؤساء برموز تأليهية تعلو على المراقبة والمحاسبة، مستخدمة جميع أدوات القوة والقهر لإخضاع الأفراد وإجبارهم على الطاعة والخضوع.

 

نقلاً عن (مركز الدراسات والأبحاث الماركسية)

العدد 1105 - 01/5/2024