معارك مصر الصغرى

استيقظ الشيخ مصطفي المراغي ذات صباح، وهو من أهم مشايخ الأزهر الشريف في بدايات القرن العشرين، وبدأ يقرأ جريدة (الأهرام) ويرتشف فنجان قهوته الصباحي. وجذب انتباهه عنوان مقالة في الصفحة الأولى وبالبند العريض، تتحدث عن نجاح طيارَيْن فرنسيين بقطع المسافة بين باريس ولندن بطائرتهما. في تلك الحقبة من التاريخ كان هذا الخبر مذهلاً لا يقل إثارة للذهول عن هبوط نيل أرمسترونغ على سطح القمر. الأمر الذي دفع الشيخ الجليل إلى التفكير في هذا الإنجاز الكبير وهو في طريقه من المنزل إلى الأزهر الشريف. وحتى حين جلس على منبره ليلقي درسه على الطلاب كانت فكرة تحليق الإنسان في الجو مسيطرة على تفكيره، لذلك عندما استأذنه أحد الطلاب في طرح سؤال عليه، وكان السؤال: ماذا يقول الشرع في مسألة دخول الإنسان إلى الحمام، هل يبدأ بقدمه اليمنى أم اليسرى؟ حدّق الشيخ المراغي في وجه الطالب لثوانٍ قبل أن ينفجر غاضباً ويصرخ قائلاً: يا (…) هم طاروا … طاروا… وأنت ما زلت في الحمام ؟!

هذه العقلية ما زالت متحكمة للأسف ببعض الأشخاص الذي توقف التاريخ بالنسبة لهم على أعتاب القرون الوسطى، ولم يستطيعوا تجاوز تلك المرحلة حتى الآن. ففي الوقت الذي كان يجب رص صفوف المجتمع وتناسي الخلافات الفكرية والعقائدية والسياسية لبناء الوطن ورفعته، نرى من يحاول زرع بذور الفرقة في المجتمع طمعاً في الحصول على شعبية وهمية أو خدمة لقوى خارجية لها أهداف ومخططات تحاول تنفيذها في المنطقة.

 

تهنئة عيد الميلاد

أثارت الفتوى التي أصدرتها الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح السلفية (1)، بتحريم تهنئة المسيحيين في أعياد الميلاد، جدلاً واسعاً وردات فعل غاضبة على الصعيد الديني والسياسي في الداخل المصري.

ففي سؤالها حول حكم تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد أفتت الهيئة، بأن الأصل في الأعياد الدينية أنها من خصوصيات كل ملة ونحلة، فكل أهل ديانة شُرعت لهم أعياد وأيام لم تشرع لغيرهم، فلا تحل المشاركة ولا التهنئة في هذه المناسبات الدينية، التي هي من أخص ما تتمايز به الشرائع باتفاق. وذهب رئيس حزب (أصالة) السلفي السيد عادل عبد المقصود إلى عدم جواز تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد قائلاً: إن الحزب لن يبعث بأي تهنئة للمسيحيين، ولن يشاركهم في أعياد الميلاد.

هذه الفتوى أحدث جدلاً منذراً بزيادة حدة التوتر بين مكونَيْ المجتمع المصري الرئيسيين، الأمر الذي جعل رئيس مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف يرد على هذه الفتوى قائلاً، التهنئة من السنة قولاً وفعلاً، والقرآن نفسه يلفت النظر إلى المعاملات بين الإنسان والإنسان، ويقول تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين  لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم…) الممتحنة/8. والمسيحيون لا يقاتلوننا في الدين، بل على العكس يقاتلون معنا أعداء الله وأعداء الوطن، ويبنون معنا البلاد، لأنها تخص الجميع. وقال أيضاً: إن الإسلام يحث على المحبة والتسامح، والرسالات السماوية لم تنه عن المعاملة بين أبناء الملة والأخرى.

ووصف الدكتور مصطفي النجار، عضو البرلمان المصري المنحل، الفتوى بالمؤسفة لأنها تخالف منهج الأزهر الوسطي. وطالب النجار بوضع ضوابط على هذه الهيئات وحصر الفتاوى بجهة واحدة (هي الأزهر الشريف)، حتى لا نرى هذه الممارسات التي تضر بالمجتمع وتلاحمه.

وفي أثناء ذلك، زار وفد إسلامي رفيع المستوى، برئاسة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الخطيب، مقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية شرق العاصمة المصرية القاهرة، لتهنئة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية بالعام الميلادي الجديد وأعياد الميلاد. وأشار شيخ الأزهر في نهاية الزيارة إلى حرص المسيحيين والمسلمين  على  تقديم نموذج فريد للتعايش، وقال: (إن الإسلام يدعو لمحبة الأقباط ومن يختلفون معنا في الدين، ومن يفعل غير ذلك فهو لا يعرف الإسلام). وأكد الإمام أن مصر لم تعرف قط حرباً أهلية ولا حرباً دينية ولا مذهبية ولا عرقية. وأكد شيخ الأزهر أن التوحد بين عنصري الأمة يبدأ أولاً بالتوحد بين العلماء ورجال الدين، ثم ينزلون به إلى الناس. وقال (نحن ماضون بذلك وسنصل إلى ما نريد بإذن الله). والجدير بالذكر أن وزير الأوقاف الدكتور طلعت عفيفي المحسوب على التيار السلفي قد غاب عن حضور هذه الزيارة.

وقال بطريرك الأقباط البابا تواضروس الثاني في لقاء تلفزيوني يوم 5/1/2013 إن تلك الفتوى (أصابتنا بطعنة في قلوبنا)، داعياً إلى (الرد عليها وعدم التعامل مع المروجين لها). وأضاف أن (الفتوى بعدم المعايدة على الأقباط أمر يمثل جرحاً كبيراً لنا… لا بد من أن يقول المجتمع لأي شخص يحرم معايدة الأقباط: عيب… وعلى الأقل اصمت). وشدد على أن (جمال مصر في تنوعها ويجب أن نحرص عليه جميعاً).

 وبعد تصريحات البابا، بعث مرشد (الإخوان) محمد بديع ببرقية تهنئة إليه عبر فيها عن (أطيب التهاني القلبية بمناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام. السلام لغبطتكم ولجميع إخواننا المسيحيين). كما بعث رئيس جمهورية مصر العربية السيد محمد مرسي ببرقية مماثلة أعرب فيها عن (أصدق تهانيه وأطيب تمنياته للبابا ولجميع الإخوة الأقباط بموفور الصحة ولوطننا مصر بدوام العزة والتقدم).

 

من (خيبر خيبر يا يهود) … إلي (تعالوا تعالوا يا يهود)

في حديثه على قناة (دريم) المصرية يوم الخميس الموافق لِ 27/12/2012 طالب عصام العريان، يهود مصر بالعودة من إسرائيل إلى موطنهم الأصلي، مهاجماً في الوقت نفسه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قائلاً: إن ما فعله بطرد اليهود من مصر قد ساهم في احتلال أراضي الغير.

وقد أدَّت هذه التصريحات التي أدلى بها الدكتور عصام العريان، القيادي الإخواني ونائب رئيس (حزب الحرية والعدالة)، حول دعوته اليهود المصريين للعودة من إسرائيل، إلى ردود فعل غاضبة في مصر من جانب الأحزاب المدنية. فقد صرّح حسين عبد الرازق، القيادي بحزب التجمع، قائلاً: (إن حديث العريان غير مسؤول، وإن ادعاءه بأن عودة اليهود المصريين من إسرائيل ستؤدي إلى إفساح المجال للفلسطينيين للعيش في بلادهم أمر لن يساعد في حل القضية الفلسطينية، أو إيجاد أماكن للاجئين الفلسطينيين في بلادهم). ورأى عبد الرازق أن حديث العريان يستهدف كسب رضا الإدارة الأمريكية واللوبي الصهيوني لاستمرار (الإخوان) في حكم مصر. أما عبدالغفار شكر رئيس حزب (التحالف الشعبي)، فقال: إن اتهام العريان للرئيس الراحل عبدالناصر بطرد اليهود المصريين هو جزء من الدعاية المضادة لثورة تموز 1952.

أما حزب الوفد المعارض فقد شبه دعوة العريان ليهود مصر بالعودة بوعد بلفور، إذ صرح متحدث باسم الحزب قائلاً: (قبل أيام استيقظ الشعب المصري أيضاً على كارثة (وعد العريان) التي أطلقها القيادي الإخواني عصام العريان بحق اليهود في العودة، ولكن هذه المرة ليست إلى أرض الميعاد (فلسطين)، وإنما إلى أرض النيل في مصر. وهذه المرة أيضاً يقال إنها بترتيب دولي أشبه في مضمونه ب (وعد بلفور) ولكنه بغطاء (إخواني).

الغريب أن الوعد (العرياني) الجديد اختصر المشهد على حق اليهود، وتناسى تماماً حق الشعب الفلسطيني المشرد في العودة إلى أرضه المغتصبة، بل خانه الذكاء السياسي حتى ولو من باب المناورة- في مقايضة حق اليهود بحق العرب ومسلمي العالم في استعادة المسجد الأقصى والقدس الشرقية. وقبل هذا وبعده يستنكرون على إخواننا الأقباط حق المعايدة، فقط المعايدة).

وفي المقابل، غاب مكتب الإرشاد، وهو أعلى هيئة قرار في جماعة الإخوان المسلمين، عن التعليق على دعوة العريان. وقد جاء التعليق الوحيد الواضح من جانب القيادي في الجماعة ورئيس مجلس الشورى الدكتور أحمد فهمي، الذي أكد في مقابلة مع إحدى الفضائيات الثلاثاء الماضي، أن دعوة العريان تمثِّل رؤيته الشخصية وليست رؤية حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين أو الكتل البرلمانية للحزب في مجلس الشورى.

وعدّ  فهمي رؤية العريان غير قابلة للتطبيق، لأن اليهود المصريين لم يجبرهم أحد على الهجرة إلى إسرائيل، ولم يُخرجهم الرئيس جمال عبد الناصر من مصر، ولكنهم خرجوا من أجل خدمة مشروع صهيوني عنصري متطرّف، ولطرد شعب من أرضه.

أما حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي للإخوان المسلمين في مصر، فقد أصدر بياناً قال فيه: (إن تصريحات الدكتور عصام العريان (نائب رئيس الحزب) الأخيرة، بشأن اليهود الذين هاجروا من مصر إلى الكيان الصهيوني، تعبر عن وجهة نظر شخصية، ولا تعكس الرؤية الرسمية للحزب). وشدد المكتب التنفيذي للحزب، الذي كان يترأسه الرئيس محمد مرسي، قبل انتخابه رئيساً للجمهورية، على (دعم الحزب الكامل للقضية الفلسطينية، والتزامه بالثوابت التي تضمن حقوق الشعب الفلسطيني في استرداد حقوقه). كما طالب شيخ الدعوة السلفية بمحافظة مرسى مطروح محمد جويلي، العريان ب ألا يتعرّى على الشعب المصري المسلم بأفكاره المسمومة المغلوطة، داعياً إياه إلى التوبة وسؤال أهل العلم إن كان لا يدري.

ونصح جويلي العريان، بأن يُمسك عليه لسانه، لأن من كثر كلامه كثر خطؤه، وإدراك حقيقة أن اليهود الذين ذهبوا إلى دولة إسرائيل واشتركوا في قتل إخواننا الفلسطينيين أصبحوا محاربين لا عهد لهم ولا ذمة.

وقد استنكر يوسف بن جاوون، رئيس الطائفة اليهودية بالإسكندرية تصريحات الدكتور عصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، والتي اتهم فيها نظام الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بطرد اليهود المصريين من البلاد، وقال بن جاوون: (عبد الناصر لم يطرد سوى بعض اليهود من ذوي الجنسيات الأجنبية الذين ثبت أن ولاءهم لم يكن لمصر). وقلل رئيس الطائفة من أهمية تصريحات العريان، وقال إنها لم تلق أي اهتمام في أوساط اليهود في مصر، معتبراً أن (هذه التصريحات هدفها إثارة ضجة مفتعلة، لأن يهود مصر المنحدرين من أصول مصرية لم يغادروا البلاد أصلاً حتى يعودوا إليها، وأن اليهود الذين تركوا مصر ليسوا من أصول مصرية، بل هم من جنسيات مختلطة، وأغلبهم أوربيون وليسوا مصريين).أما الرد الأقسى على دعوة العريان فقد جاءت من عازي نجار، رئيس جمعية يهود مصر في إسرائيل ورئيس جمعية مطالبي حقوق يهود الدول العربية، إذ وصف الدعوة للعودة إلى مصر بأنها (لعب أولاد، وليست حكيمة ولا منطقية). وتابع قائلاً،(… لماذا إذن نعود إلى دول لا تحترم حقوق الأقليات؟ … لذلك أنا أنصح العريان بالاهتمام بمشاكله الداخلية بدلاً من هذا الكلام الفارغ).

 

إنه الاقتصاد يا غبي

إن المؤشرات السياسية والاجتماعية في مصر تدّل على أن الاستقرار السياسي في البلاد ما زال بعيد المنال، ويزداد الأمر سوءاً وارتباكاً في ضوء حقائق الوضع الاقتصادي التي تنذر بثورة جياع، إذا استمر تدهور الأداء الاقتصادي الكلي على النحو السائد في ظل حكومة الرئيس مرسي برئاسة هشام قنديل.

فقد انخفضت قيمة العملة المحلية أمام الدولار، الذي أصبح في حكم المختفي من المصارف وشركات الصرافة، وارتفعت الأسعار اتفاعاً جنونياً، وتوقفت مصانع عديدة عن العمل في قطاعات حيوية، كصناعة الأسمدة والأسمنت، نظراً للنقص في إمدادات الطاقة. وظهر الحديث عن مدى قدرة الحكومة على سداد أجور جهازها البيروقراطي في مطلع الشهر الجديد، وهو أمر لم يحدث من قبل. وثمة شكوك حول مدى ضمان المصرف المركزي لودائع الأفراد في المصارف المحلية. في الأثناء، انخفض الاحتياطي من العملات الأجنبية إلى حد الخطر، بات في حدود 14 مليار دولار فقط، وهي تغطي احتياجات مصر الأساسية لمدة 3 أشهر وحسب. وزاد الأمر سوءاً مع تخفيض المستوى الائتماني للاقتصاد المصري إلى درجة (ب سالب)، وتخفيض مستوى الجدارة لثلاثة من المصارف المحلية الكبرى، وقيام العديد من المصارف بالسحب من أرصدتها في الخارج لتغطية احتياجات الداخل.

كل هذا مؤشرات سلبية خطيرة، في الوقت الذي لا تتضح فيه سياسة الحكومة لمواجهة هذا التحدي الكبير، خاصة بعد توقف المباحثات مع صندوق النقد الدولي الذي عبّر عن ضرورة تحقيق الاستقرار السياسي أولاً قبل الاتفاق على منح القرض للحكومة المصرية. وكذلك فعلت ألمانيا التي أوقفت معونتها الاقتصادية لمصر نظراً لفقدان الاستقرار السياسي، ولأن سياسات الرئيس مرسي (تتجه نحو ديكتاتورية وليست ديمقراطية).

وتظل المشكلة الكبرى لدى الحكام الجدد في اعتبار هذه المؤشرات وكأنها مجرد تحدّ عابر يمكن السيطرة عليه في ظل انقسام سياسي ومجتمعي كبير. ولكنه  ولعله هو الأهم بالنسبة لهم  يحقق هيمنة جماعة الإخوان على الدولة المصرية، أو هكذا يظن المقربون من الرئيس وأعضاء حزبه. وتلك مصيبة في الفكر والسياسة معاً.

 

الهوامش:

الهيئة الشرعية هي هيئة عرَّفت نفسها بعد الثورة المصرية، بالهيئة العلمية الإسلامية الوسطية المستقلة. وتضم رموزاً من الدعاة والسياسيين من التيارات السلفية، وجماعة الإخوان المسلمين، والحماعة السلفية. أبرزهم الداعية محمد حسان، وخيرت الشاطر، نائب المرشد العام للإخوان المسلمين، والشيخ حازم أبو إسماعيل، والدكتور ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية.

العدد 1105 - 01/5/2024