تركيا وخياراتها الاستراتيجية (2من2)

في ضوء اختلاف الغايات البعيدة للخيارات الاستراتيجية، تتباين مساراتها، فلكل خيار استراتيجي مسارٌ مستقل تحدده الغايات النهائية له. قد تتقاطع مسارات الخيارات الاستراتيجية في بعض المواقع، لكنها ما تلبث أن تفترق وتبتعد في مواقع أخرى، لذلك من شأن التعاطي مع الخيارات الاستراتيجية كحزمة واحدة أن يقود إلى مآزق يصعب الخروج منها.

تعدّ الحالة التي وصلت إليها العلاقات التركية الإسرائيلية تجسيداً للمأزق الذي يمكن أن تسفر عنه طريقة التعاطي مع الخيارات الاستراتيجية كحزمة واحدة.

أدركت تركيا في سعيها للانفتاح على محيطها العربي والإسلامي أن المدخل الطبيعي والأكثر جدوى لذلك هو القضية الفلسطينية التي تمثل القضية الأولى للعرب والمسلمين، والمعبر الأسلم المفضي إلى عقول وقلوب العرب والمسلمين. ولم يكن من الصعب على حكومة حزب العدالة والتنمية أن تلاحظ المكاسب الهامة التي حققتها إيران بسبب احتضانها للقضية الفلسطينية بعد أن تخلى عنها معظم البلدان العربية.

في هذا السياق تندرج مداخلة رجب طيب أردوغان في منتدى دافوس في 29 كانون الثاني/ يناير من عام 2009، وموقف أردوغان في الأمم المتحدة في نهاية أيلول/ سبتمبر 2009، في دفاعه عن القضية الفلسطينية، وقافلة السفن (أسطول الحرية) التي تنقل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة المحاصر في 28/5/2010، وإلغاء المناورات العسكرية الثنائية بين تركيا وإسرائيل، والانتقادات الحادة للسياسات الإسرائيلية في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة وعملية الرصاص المصبوب في كانون الأول/ ديسمبر 2008. (13).

بيد أن توجُّه تركيا للانفتاح على محيطها العربي والإسلامي عبر بوابة الصراع العربي الإسرائيلي يصطدم بعقبات كأداء. فتركيا لا يمكنها أن تذهب بعيداً في توتير علاقاتها مع إسرائيل لأنها عضو في الحلف الأطلسي، وتسعى جاهدة للانضمام إلى الاتحاد الأوربي. كما لا يمكنها أن تستمر في نزاعها مع إسرائيل إلى الحد الذي يهدد علاقاتها الاستراتيجية معها، ويثير حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل إدراك حكومة حزب العدالة والتنمية لمخاطر تصعيد التوتر قد دفع الرئيس التركي عبد الله غول لتوجيه الدعوة لنظيره الإسرائيلي شمعون بيريز إلى زيارة تركيا في اللقاء الذي تم بينهما عبر هامش قمة المناخ في كوبنهاغن بتاريخ 18/12/2009. (14).

يكمن مأزق تركيا مع إسرائيل في محاولتها الجمع بين خيارين استراتيجيين متطلبات كل منهما متعارضة ومتناقضة مع متطلبات الآخر. فالخيار الإسلامي بما يعني انفتاح تركيا على محيطها العربي والإسلامي يتطلب تبنيها للقضية الفلسطينية بجميع مندرجاتها، في حين أن الخيار القومي التركي يتطلب الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل، وتعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية.

احتضان القضية الفلسطينية يستدعي تبني مطالب الشعب الفلسطيني في توفير الدعم بجميع الوسائل لخيار الشعب الفلسطيني في حقه بالمقاومة، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، والانضمام إلى الحملة العالمية لمقاطعة الشركات الإسرائيلية والشركات الداعمة لها وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وفضح النزعة العنصرية الإسرائيلية، ونزع القناع عن الوجه الحقيقي الاستعماري الصهيوني الفاشي لإسرائيل، ومناهضة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.

وعوضاً عن تبني المطالب الحقيقية للشعب الفلسطيني، عمدت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الترويج للعملية السياسية بين السلطة الفلسطينية وحكومة الكيان الصهيوني. وبما أن استمرار حماس في نهج المقاومة يهدد العملية السلمية فقد أكد وزير الخارجية علي بابا جان بتاريخ 21/1/2009 (أن أنقرة توجه النصح دائماً لحماس أن الحل لا يكون بالسلاح، ويجب البحث عن الحل في الأطر الديمقراطية). (15).

لم يكن هذا الموقف من القضية الفلسطينية بالأمر المستغرب، فالعملية السياسية تسمح لحكومة حزب العدالة والتنمية الاشتغال بالملف الفلسطيني دون التفريط بعلاقاتها الاستراتيجية بإسرائيل. كما أن الموقف التركي ينسجم مع موقف الاتحاد الأوربي ولا يتعارض مع الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل. لذلك قد لا يكون بعض المثقفين قد جانبوا الصواب حين قالوا: (إن توجه تركيا نحو محيطها العربي الإسلامي لم يكن دافعه الأول تحقيق مصالح مباشرة للقضية الفلسطينية، وإنما الدافع الرئيسي تحقيق المصالح التركية في المنطقة في المقام الأول (16).

اللافت أن رئيس حكومة حزب العدالة والتنمية قد تعهد في كلمة له في المؤتمر الرابع للحزب المنعقد بتاريخ 30/9/2012 بعدم تطبيع العلاقات مع إسرائيل ما لم تعتذر عن مهاجمة أسطول الحرية، ما يثير تساؤلات حول حقيقة موقف حكومة حزب العدالة والتنمية من القضية الفلسطينية. إذ يبدو أن خلاف حكومة حزب العدالة والتنمية مع الكيان الإسرائيلي لا يكمن في استمراره في بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتهويد القدس، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، والممارسات الفاشية للكيان ضد الفلسطينيين المقيمين فيه، وملاحقة الفلسطينيين المقيمين في الضفة والقطاع واعتقالهم واغتيالهم وتشريدهم، وإنما في عدم اعتذار حكومة الكيان الغاصب عن مهاجمة أسطول الحرية.

مأزق آخر وقعت فيه حكومة حزب العدالة والتنمية في تعاطيها مع خيارات تركيا الاستراتيجية بسبب عدم تصديها لأزمات تركيا الداخلية بما يكفي لتلبية متطلبات خياراتها.

لم يصطدم خيار انضمام تركيا للاتحاد الأوربي برفض فرنسا وألمانيا الناجم عن الخوف من النزعة الإسلامية لحكومة حزب العدالة والتنمية فحسب، بل بعجز تركيا عن تحقيق مصالحة مع تاريخها ومع مكوناتها الإثنية ولا سيما الأكراد والأرمن بفعل النزعة القومية العنصرية التركية أيضاً.

تعدّ النزعة العنصرية التركية الأكراد، الذين يشكلون ما بين 17 و20 بالمئة من مجموع السكان، مخلوقات أدنى، وميالون بالفطرة تقريباً إلى ارتكاب الجرائم، ويقومون بكل الأعمال القذرة والجرائم الوضيعة على الأراضي التركية عموماً. ولا تتردد الأوساط القومية التركية المنفتحة على الحوار في وصف الأكراد بأنهم عشائر بدائية ارتهنت طوال تاريخها لمختلف القوى وهزّت لها ذيلها. وتتهم أوساط اليسار القومي الأكراد بأنهم أداة في يد الولايات المتحدة والإمبريالية. كما يلاحظ حقد كامن ضد الأكراد من الخطاب القومي الشعبي الذي يرى في الأكراد جوهر الفظاظة والهمجية). (17).

لا تقل العلاقات التركية  الأرمنية تعقيداً عن العلاقات التركية  الكردية. فالفاجعة التي حلت بالأرمن عام 1915 والتي عدّها الاتحاد الأوربي إبادةً جماعية، ما زالت تداعياتها حاضرة. وبدلاً من اعتراف تركيا بذنبها، تتجنب مواجهة ماضيها بسبب نقص الوعي التاريخي في المجتمع التركي (18). على أن فقدان الذاكرة الاجتماعية في تركيا لا يفسر وحده لماذا يسبب موضوع الإبادة الأرمنية كل هذا الانزعاج لدى الأتراك. لتفسير هذه الحساسية يقدم تانر أكجام ثلاثة أسباب هي: الخوف من الشعور بالذنب لا العار، والخوف من العقاب، والخوف من الماضي والاحتمال المرعب أن ينعت بعض الآباء من مؤسسي الجمهورية بالسارقين والقتلة. (19).

على أن عجز تركيا عن تحقيق مصالحة مع ماضيها ومع الأرمن والأكراد لم يشكل عقبة أمام انضمامها إلى الاتحاد الأوربي فحسب، بل أقام عوائق يصعب تخطيها أمام انفتاح تركيا على محيطها الإقليمي أيضاً. فإصرار تركيا على عدم الاعتذار عن مذابح عام 1915 التي تعرَّض لها الأرمن قد حال دون تطبيع العلاقات مع جمهورية أرمينيا، ودفع بالأقليات الأرمنية الموجودة في بلدان الإقليم إلى اتخاذ مواقف مناهضة ضد تركيا في المنطقة. وهناك من يعتقد (أن العلاقات مع أرمينيا تشكل كعب أخيل في السياسة الخارجية لتركيا، مهما حققت الحكومة من نجاحات في ميادين أخرى، فإن فشلها في تحقيق تقدم في هذه العلاقات سيدفع بنجاحاتها الأخرى إلى الظل).  (20).

كما أن استمرار حكومة حزب العدالة والتنمية في ممارساتها العنصرية تجاه الشعب الكردي والتعامل مع المسألة الكردية بالعنف ورفض الحوار لم يساعد على وضع حد للاقتتال وإيقاف نزيف الدم بين الشعبين التركي والكردي المتواصل منذ عقود طويلة. ولم تحقق السياسة الجديدة التي انتهجها رئيس الوزراء التركي في أواسط عام 2009 للانفتاح على الأكراد بهدف وضع نهاية للكفاح المسلح لحزب العمال الكردي نتائج ملموسة. إذ إن خوف رئيس الوزراء التركي من ردة الفعل لدى القوميين الأتراك قد دفعه إلى تغيير الاسم من الانفتاح على الأكراد إلى الانفتاح الديمقراطي ثم إلى مشروع الوحدة والأخوَّة الوطنية (21). على أنه مهما كان الاسم الذي يطلق على السياسة التركية تجاه الشعب الكردي، فقد فشلت في مقاربة جوهر المسألة الكردية، ما حال دون التوصل إلى مصالحة وطنية بين الشعبين التركي والكردي لوضع حد للاقتتال الدائر. وهناك من يرى أن امتناع حزب العدالة والتنمية عن التفاوض الجدي مع الأكراد، واعتقاده أن الحل ممكن بمجرد القيام ببعض الخطوات الإيجابية خطأ سياسي كبير. (22).

من نافل القول إن سياسة المحاور المتعددة القائمة على التعاطي مع الخيارات الاستراتيجية كحزمة واحدة قد فشلت في تحقيق أي هدف من أهداف تلك المحاور. فالأفق أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي ما زال مسدوداً، وانفتاح تركيا على محيطها الإقليمي يتعثر بسبب حضور الماضي بما ينطوي عليه من ذكريات مؤلمة وأحقاد، إلى جانب الحاضر الذي تتحكم فيه نزعات عنصرية تركية. والتحرك التركي نحو محيطها العربي والإسلامي ينتابه الارتباك بسبب التعارض بين سعي تركيا لاستخدام القضية الفلسطينية معبراً لمحيطها العربي والإسلامي، وبين احتفاظها بعلاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل التي تواصل جرائمها بحق الشعب الفلسطيني وتوسيع احتلاله وإحكام قبضتها على أرضه.

على أن ما زاد الطين بلة هو أن حكومة حزب العدالة والتنمية في تعاطيها مع القضايا المطروحة في المنطقة تنحاز إلى طرف دون الأطراف الأخرى، وذلك خلافاً للآلية التي اعتمدها وزير الخارجية التركي لتحقيق سياسته الخارجية التي تنص على أن يحتفظ صانعو السياسة التركية بمسافة متساوية مع كل اللاعبين ويتحاشون الانضمام إلى أي تحالف إقليمي. (23).

في تعاطي حكومة حزب العدالة والتنمية مع القضية الفلسطينية انحازت إلى حركة حماس، وعملت على دفعها باتجاه العملية السياسية التي تتوافق مع رؤيتها للحل الفلسطيني، وتنسجم مع موقف الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية. ولم يكن من الصعب على حكومة حزب العدالة والتنمية استمالة حركة حماس، فكلتاهما تنهلان من نبع واحد (فكر الإسلام السياسي) وتتطلعان إلى هدف واحد (إمارة إسلامية في قطاع غزة). وإذا حاولت حكومة حزب العدالة والتنمية الاتصال بأطراف فلسطينية أخرى، فذلك من قبيل ذر للرماد في العيون.

كذلك سعت حكومة حزب العدالة والتنمية في تعاطيها مع الأوضاع في العراق استمالة الطائفة السنية لإيجاد موطئ قدم لها في العراق. وعوضاً عن العمل على تشجيع إقامة حوار وطني حقيقي بين مكونات الشعب العراقي، ولا سيما بين السنة الشيعة في إطار العملية السياسية المتعثرة، استغلت حكومة حزب العدالة والتنمية قضية نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي لتأجيج الصراع بين الطائفتين العراقيتين الرئيستين. ولتعزيز نفوذها في العراق كلاعب يحسب له حساب، عمدت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى توسيع أنشطتها الاقتصادية في كردستان العراق، إذ يوجد (قرابة 500 شركة تركية في كردستان العراق كانت عام 2009 تدير 145 مشروعاً بقيمة بلغت 12 مليار دولار أمريكي) (24). ومن الطبيعي أن يؤدي تزايد الاستثمارات الاقتصادية التركية في كردستان العراق، إلى تعزيز نفوذ حكومة حزب العدالة والتنمية لدى حكومة إقليم كردستان العراق، ما مكّنها من توظيف نفوذها للضغط على حزب العمال الكردستاني.

للوهلة الأولى بدا موقف حكومة حزب العدالة والتنمية من قضية الملف النووي الإيراني منحازاً للجانب الإيراني. إذ حاولت حكومة حزب العدالة والتنمية بالتعاون مع البرازيل (عرقلة المخطط الأمريكي لفرض عقوبات إضافية على إيران في مجلس الأمن بالإعلان عن توصلهما إلى اتفاق مع إيران يقضي بأن تشحن وقودها النووي إلى تركيا مقابل أسطوانات وقود نووي ستستخدم في مفاعل طبي في إيران. وحين اقتُرح قرار يدعو إلى فرض مزيد من العقوبات على إيران في مجلس الأمن في حزيران/ يونيو صوتت تركيا ضده) (25). لم يكن بمقدور حكومة حزب العدالة والتنمية أن تذهب بعيداً في اصطفافها مع إيران، لا لأن ذلك يغضب الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي فحسب، بل لأنه يفقدها تعاطف دول الخليج العربي التي بلغت استثماراتها في تركيا 30 مليار دولار عام 2008 أيضاً. (26).

لم يخرج أسلوب تعاطي حكومة حزب العدالة والتنمية مع الانتفاضات العربية التي اندلعت أواخر عام 2010 عن النسق العام لتعاطيها مع قضايا المنطقة الأخرى. فقد وجدت حكومة حزب العدالة والتنمية في تلك الانتفاضات فرصة سانحة لتعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتعظيم دورها الإقليمي. وبدلاً من أن تنأى بنفسها عن الصراع وتقيم علاقات متوازنة بين اطرافه لحثها على الانخراط وساط اأوفي حوارات وطنية تقود إلى التغيير بأسلوب سلمي متدرج للأوضاع بعيداً عن التدخلات الخارجية، انحازت حكومة حزب العدالة والتنمية إلى قوى تيار الإسلام السياسي ولا سيما إلى الإخوان المسلمين. وقادها هذا الانحياز إلى إقامة تحالفات مع قوى إقليمية ودولية لكل منها أجندة خاصة بها بعيداً عن تطلعات قوى التغيير الوطنية.

وقد خيل لحكومة حزب العدالة والتنمية أن نجاح الإخوان المسلمين في القبض على السلطة في البلدان التي اندلعت فيها الانتفاضات سيوفر لتركيا المكانة المرموقة في المنطقة باعتبارها الدولة النموذج والحاضنة للأنظمة الجديدة الناشئة، ويمكّنها بالتالي من حجز مقعد لها بين (اللاعبين النشيطين المؤثرين الذين يجلسون حول طاولة ليحلوا المشاكل بدلاً من مجرد مراقبتها) (27)، حسب تعبير وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو. وقد حرص وزير الخارجية التركي أثناء دفاعه عن السياسة الخارجية التركية في البرلمان التركي على التأكيد أن شرق أوسط جديد يتشكل الآن، وتركيا ستقود وتوجه وتخدم موجة التغيير في الشرق الأوسط (28).

بيد أن ما أسفر عنه انحياز حكومة حزب العدالة والتنمية هو تأجيج الصراعات الطائفية والإثنية في المنطقة، وامتداد لهيبها إلى داخل تركيا. وتحولت سياسة تصفير المشاكل مع الجيران إلى سياسة تصفير الجيران (29). فقد توترت علاقات تركيا مع عدد من دول الجوار، ولا سيما العراق وسورية وإيران، إضافة إلى أرمينيا وروسيا والصين، إلى حد ما. وأدى اصطفاف تركيا إلى جانب أحد أطراف الصراع في مواجهة الأطراف الأخرى إلى فقدان قدرتها على التحدث مع الجميع، وبالتالي خسارة قوتها الناعمة (30).

كما أسهم الانحياز التركي في اشتداد الصراع في المنطقة بمختلف أشكاله: المسلح والإعلامي والسياسي، وذلك من خلال انخراط قوى خارجية فيه عبر أدواتها الإقليمية على نحو بات يهدد السلم العالمي. وأثار الانخراط التركي في الصراع مخاوف شرائح واسعة من الشعوب العربية من عملية خداع واستغلال ووصاية تجاه العرب تمارسها حكومة حزب العدالة والتنمية لتحسين أوراقها التفاوضية مع أوربا وإسرائيل، ودعم علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية. (28). على أن ما يدعو إلى التساؤل هو عما إذا كان الدور الذي تتصدى له تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية يفوق إمكاناتها، وما إذا كان من الأجدى انصراف حكومة حزب العدالة والتنمية إلى معالجة أزماتها الداخلية مع مكونات شعبها، ولا سيما الأكراد والأرمن، قبل البحث عن دور إقليمي لها.

لا شك أن تركيا بما تشتمل عليه من كتلة بشرية وازنة وقدرات اقتصادية ضخمة وموقع جيوستراتيجي بالغ الأهمية تشكل ركناً أساسياً من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويمثل الشعب التركي أحد ثلاثة أقوام رئيسة إلى جانب العرب والفرس تتعايش منذ قرون عديدة في المنطقة. وشهد التاريخ نزاعات مستعرة وحروب دموية بين تلك الأقوام كانت تفضي إلى سيطرة أحدها على المنطقة لحقبة من الزمن. وفي العديد من الأحوال كانت تلك النزاعات والحروب تحدث إما بتحريض خارجي، أو باستدعاء الخارج للمشاركة فيها.

لم يكن الخارج بما يمثل من مصالح وقوى ودول تعمل للسيطرة على المنطقة تحت العلم الفرنسي تارة، أو العلم البريطاني أو الأمريكي تارة أخرى، بعيداً عما يحدث فيها في يوم من الأيام. فمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بما تنطوي عليه من موارد وثروات طائلة وموقع استراتيجي بالغ الأهمية، يطل على المحيطات والبحار، ويتحكم بالمضائق والممرات المائية وطرق التجارة العالمية البرية والبحرية، كانت دائماً محط أنظار الخارج وساحة للصراع بين أطرافه للسيطرة عليها.

كان وما يزال احتمال توصل شعوب المنطقة إلى تفاهم فيما بينها يشكل الهاجس المرعب لدى تلك القوى والمصالح والدول. لذلك عمدت تلك الدول إلى إقامة قاعدة عسكرية متقدمة لها في قلب المنطقة، أطلق عليها اسم إسرائيل، لعرقلة أي جهد حقيقي لإقامة تفاهم وتعاون بين شعوبها.

 

كما دأبت تلك القوى والمصالح والدول على استغلال الخلافات بين شعوب المنطقة لإثارة الفتن وافتعال النزاعات بينها، وذلك للإبقاء على حالة الانقسام والتنازع، وبالتالي الوهن والعجز ما يمكّن تلك الدول من استمرار هيمنتها على المنطقة.

ولم تفتقر تلك الدول إلى أدوات محلية وإقليمية في المنطقة تعمل على تنفيذ أهدافها ومشاريعها بوعي أو دون وعي. وإذا كانت القوى الخارجية متفقة فيما بينها على إبقاء المنطقة في حالة ضعف وتفكك وتناحر، فإن ما يفرق بينها هو تناقض المصالح وتوزيع الغنائم واقتسام مناطق النفوذ.

وليس من قبيل المصادفة أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر المناطق في العالم توتراً واقتتالاً. فما إن تهدأ الأوضاع في بقعة حتى تندلع في بقعة أخرى. وتستمر مشاهد التدمير والتقتيل والتهجير في مسلسل لا نهاية لحلقاته. وغالباً ما يكون خلف الحروب المحلية والإقليمية في بلدان المنطقة قوى خارجية متصارعة فيما بينها على مناطق النفوذ. وقد يبلغ الصراع بين القوى الخارجية على المنطقة درجة من السخونة والحدة ما يهدد لا أمن المنطقة فحسب، بل الأمن والسلم العالمي.

لذلك ليس من المغالاة القول إن الأمن والسلم العالمي يتوقف على الأمن والسلم في المنطقة.

للحفاظ على أمن وسلم المنطقة وبالتالي العالم، يتعين على شعوب المنطقة التوصل إلى صيغة من التوافق فيما بينها تكفل مصالحها وحقوقها كافة، وتضع حداً للاحتراب فيما بينها، وتغلق الأبواب والنوافذ أمام التدخل الخارجي في شؤونها.

لست من السذاجة لأعتقد أن التوصل إلى تلك الصيغة من التوافق هو أمر قابل للتحقق في الأفق المنظور. فالنزاعات بين القوى المحلية تتشابك وتتداخل مع النزاعات بين القوى الإقليمية والدولية. والقوى الخارجية بمختلف تجلياتها من مصالح اقتصادية وقواعد عسكرية ووكلاء ونفوذ لدى الفئات الحاكمة حاضرة بكثافة في العديد من بلدان المنطقة. وتضارب المصالح بين القوى المحلية والإقليمية والدولية المتصارعة غالباً ما يغطى بغلاف طائفي ومذهبي وبشعارات الحرية والكرامة وحقوق الإنسان.

بيد أنه لا مناص لشعوب المنطقة ودولها، ومنها تركيا، من الإدراك في نهاية المطاف أنه لا أمن لها خارج أمن المنطقة. فلا الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ولا التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل، ولا الانضواء تحت مظلة الحلف الأطلسي والحماية الأمريكية يكفل لتركيا الأمن.

 

يتحقق الأمن التركي عندما تتخلى حكومة حزب العدالة والتنمية عن أوهامها العثمانية، وتكف عن العمل على فرض وصايتها على شعوب المنطقة، وتمتنع عن التدخل في شؤونها الداخلية، وتتجنب خداع شعوب المنطقة بسياسات وأساليب تكتيكية تهدف في نهاية المطاف إلى استغلال قضاياهم لمصالحها، وتتبنى بصدق ودون مواربة مطالب وحقوق الشعب الفلسطيني، وتعيد النظر في تحالفاتها وارتباطاتها الخارجية، فهل تفعل…..؟!

 

فهرس الهوامش

(13) المرجع السابق ص 69  80.

(14) المرجع السابق ص 82.

(15) المرجع السابق، ص 87.

(16) د. محمد السيد سليم، موقع تركيا في البدائل الاستراتيجية الدولية للوطن العربي في ضوء التحولات الثورية العربية، مؤتمر علمي حول العرب وتركيا: تحديات الحاضر ورهانات المستقبل، مرجع سابق.

(17) راجع مقالة للكاتب التركي تانل بورا، ترجمة الكاتب بكر صدقي بعنوان: يجب إبادتهم بأسلحة الدمار الشامل: عن الحقد المتنامي في تركيا ضد الأكراد، مجلة (الآداب) اللبنانية، مرجع سابق، ص 68.

(18) تانر أكجام، الخوف من مواجهة التاريخ، خطوات أساسية على طريق المصالحة التركية  الأرمنية مجلة (الآداب) اللبنانية ص 83.

(19) المرجع  السابق ص 64  66.

(20) راجع حوار مع أتيين محجوبيان، مدير تحرير أسبوعية (أغوس) التي تصدر في إسطنبول باللغتين الأرمنية والتركية، أجراه الكاتب بكر صدقي ونشر في مجلة (الآداب) اللبنانية، مرجع سابق، ص 78.

(21) يوكسل طاشقن، حزب العدالة والتنمية وبحث تركيا عن نفوذ إقليمي، مجلة (الآداب) اللبنانية، مرجع سابق ص 55.

(22) حوار مع أتيين محجوبيان، مرجع سابق، ص 78.

(23) بولنت آراس، حقبة أحمد داود أوغلو في السياسة الخارجية التركية، مرجع سابق، ص 51.

(24) يوكسل طاشقن، حزب العدالة والتنمية وبحث تركيا عن نفوذ إقليمي، مجلة (الآداب) اللبنانية، مرجع سابق ص 54.

(25) المرجع السابق، ص 53.

(26) المرجع السابق، ص 56.

(27) المرجع السابق، ص 56.

(28) جريدة (الحياة) اللبنانية الصادرة بتاريخ 27/4/2012.

(29) سينان أولجن، محاضرة عن دور تركيا من الإلهام إلى الطموح، ألقيت في مقر كارينجي، الشرق الأوسط بيروت، جريدة (النهار) البيروتية، تقرير موناليزا فريحة.

(30) سيمح إيديز، الكاتب التركي في صحيفة ملييت المعارضة، صحيفة (الأخبار) اللبنانية الصادرة بتاريخ 24/4/2012.

(31) محمد السيد سليم، موقع تركيا من البدائل الاستراتيجية الدولية للوطن العربي في ضوء التحولات الثورية العربية، مرجع سابق

العدد 1105 - 01/5/2024