فهم العالم لماركس

في بلاد المهجر لا أحد يعتز أنه مثلاً عربي أو كردي، أو…. إلخ، بل بالعكس يحاول قدر الإمكان إخفاء أصله، فكيف يكون هذا أميناً فيما يكتب أو يفعل؟ لا أعتقد ذلك. بالمقابل نجد الأقوام الأخرى كلها فخر بأصولها. ولا عجب في هذا الخصوص وللأسباب ذاتها ضعف الجاليات العربية بشكل غريب وعجيب. ربما أجد طرفاً لخيط لهذه الشعوب، فهي حتى الآن لم تقدم نموذجاً قابلاً للحياة والمنطق سواء في بلدانها الأصلية أو المهجر، ففاقد الشيء لا يعطيه.

إنني أكتب في مواقع أخرى ولكنها غربية، وأعدّ الكتابة في تلك المواقع أهم من الكتابة في مواقعنا العربية، والسبب اختلاف البنية المادية والنفسية للقراء في كلا الموقعين، يقرأ إذا أعجبه ويعلق بمهنية، فتلك المواقع مقسمة إلى forums مختلفة، فإذا كنت تحب الفلسفة ذهبت إلى forum الفلسفة……إلخ.

اكتب عن ماركس في تلك المواقع الغربية، لأجد تعليقات ممن هو مؤيد أو معارض، ولكل ملاحظاته التي يدافع عنها. وعندما تحاوره في ملاحظاته، تجده يرد عليك بملاحظات جديدة لتدعيم وجهة نظره، لا سب لا شتم، لا نكات، لا خروج عن موضوع إلى غير تلك السفاهات التي تخرج من المعلقين باشتراك. يا للعجب المحررين أو بعضهم، أو ليقل لي أحدكم في مقالة يتحدث عن فائض القيمة أو عن أي قضية ماركسية، تجد عشرات التعليقات تتحدث عن كيف تسعدين زوجك مثلاً، هل هذا معقول؟ وإن كان معقولاً فهو يعبر عن عيب خلقي ونفسي ليس له مثيل. أنا أعرف معظم كتاب التمدن ما لم يكن له نشاط في الأحزاب الشيوعية هم عبارة عن بعثيين سابقين. وقلت بعثيين لأن معظم كتاب الموقع من الإخوة العراقيين. أن تجادل القارئ العربي فذاك ضرب من الخيال، فهو يحتقر الحقيقة، ويفهم في كل شيء وموضوع، فهو الأوحد، تجده لا يكتب من أجل هدف عام، بل من أجل نفسه. ومن يكتب لنفسه فكيف تحاوره؟ لن تستطيع معه صبراً، فهو يكتب لإثبات تفوق نفسه، فكيف تخطئه؟

أبعدتنا تلك المقدمة عن الموضوع، وهو فهم العالم لماركس. لأن ماركس واضع الفلسفة المادية وزميله إنجلز، وقد قلب هرم هيجل من حيث هيجل أبو المثالية، ميز بين البناء الفوقي والتحتي وأيهما يسبق الآخر. ففي المثالية تقول: إن البنية الفوقية تسبق التحتية، والمادية تقول: إن البنية التحتية تسبق الفوقية. فالمثالية تقرر أولية العقل على المادة. إلا أن المادية تقرر أولية المادة على العقل. وطبعاً البنية الفوقية والتحتية لهما دلالات، فالبنية الفوقية هي كل نشاط إنساني من ثقافة وفن وموسيقا وقيم…إلخ. بينما البنية التحتية هي القاعدة المادية التي تنبثق عنها جميع النشاطات الإنسانية، والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً جداً بوسائل وعلاقات الإنتاج. وعلى هذا الأساس فسّر ماركس التاريخ والتطور البشري في أزمانه المختلفة من خلال المادية التاريخية.

العالم الغربي اليوم يفهم ماركس جيداً، خصوصاً بعد الأزمات التي تنبّأ لهم بها ماركس، وهذا واضح من حجم مبيعات الكتب ومن المواضيع التي تنشر في المجلات الإلكترونية حول الماركسية.

دخلت مرة في نقاش مع أحدهم حول نظرية ماركس، إذ طرح عليّ السؤال التالي: »أنا قرأت ماركس، وأعتقد أنه صائب فيما يقول، وتحليله للنظام الرأسمالي وتنبؤاته صحيحة، إلا أنني لا أفهم أن الرأسمالية قاتلة لنفسها، لأن هذا لم يتحقق، فكيف تفسر ذلك «.

كانت إجابتي طبعاً كما يلي: عزيزي (إرك) شكراً لك على السؤال، سأحاول الإجابة بما تعلمت من علوم ماركسية.

النظام الرأسمالي قائم على الإنتاج الغزير وتراكم البضائع، وهنا أقصد النظام الرأسمالي الكلاسيكي، لا كما هو الآن حيث نعاني البطالة، والمحظوظ من يجد عملاً. يدخل هذا النظام في أزمة عندما لا يستطيع تصدير إنتاجه، وقد حدث ذلك نتيجة تحرر المستعمرات، في هذه الحالة الطبقة العاملة لا تستطيع استيعاب ما تنتج، هنا تحدث الأزمة، ويفترض من هذا التناقض حسب ماركس حدوث تحول اشتراكي، لأن هذا التناقض هو أرضية خصبة لثورة اشتراكية يقوم بها العمال.

ثم يسأل: (ولكن هذا لم يحدث، فأين نظرية ماركس من ذلك؟).

يفترض عزيزي التحول الاشتراكي، حسب تفسيرات ماركس، لكن السبب طبقة سماها ماركس البرجوازية الصغيرة، هذه الطبقة لها طموحات غير شرعية، فهي جشعة جداً وطفيلية، وتفضل الربح السريع من دون بذل أي جهد. لقد استلمت هذه الطبقة زمام الأمور في مراكز الرأسمالية في أزماتها المتعثرة كحل للنظام الرأسمالي وأوصلتنا إلى ما نحن فيه، في ظل انهيار الرأسمالية، واستمتعت بما أنتجته الرأسمالية من ثروات، واستحدثت العولمة واقتصاد السوق دون رقيب أو حسيب، وأخذت على عاتقها الخدمات، وتركت الرساميل تفعل أو تنجو برزقها كيفما كان، فانتشر الفقر ووصلت ديونها إلى أرقام فلكية.

خذ مثلاً أنت تدفع لشركة تأمين سيارتك المتواضعة أضعاف سعرها سنوياً، فهل هذا معقول؟ هذا انحراف تاريخي غير مسبوق، أنت محظوظ وتعمل ولكن تستهلك 70% من دخلك للخدمات، وماذا بعد؟ هب أنك طردت من العمل كمثل الآلاف من العمال، فهل تسد إعانات الحكومة حاجاتك الأساسية؟ فكيف الحال بفواتير الخدمات ؟

يرد أرك (أفهم ذلك تماماً، مع العلم أنك وضعتني في موقف سوداوي لا سبيل إلى الخروج منه، وما هو اقتراحك للخروج من هذه الحالة؟).

رغم صعوبة وضع العالم اليوم يا عزيزي، حيث طبقة وحيدة هي التي تحكم، ولن تتنازل عن امتيازاتها بأي حال من الأحوال، وهي تعيش على ما بقي من دماء الطبقة العاملة، إلا أنني أعتقد أنه  يجب الاستفادة من هامش الحريات الموجودة. فتفعيل العمل النقابي والتنويري والاحتجاجات يمكن أن تعيد توزيع الثروة بطريقه أحسن، ولا أقصد بالمطلق، بل أفضل حالاً.

نقلاً عن (مركز الأبحاث والدراسات الماركسية).

العدد 1105 - 01/5/2024