الربيع العربي في عامه الثاني… «شمال إفريقيا»

أثبت الربيع العربي خطأ الحسابات الغربية حول علاقة الشعوب العربية بالديمقراطية، فالتجربة في كل من البلدان التي أصابتها حمى الربيع العربي توحي بأن الاتجاه الفعلي للشارع هو نحو أنظمة سلفية متشددة يلغى فيها الآخر المخالف فكرياً، ومعه الأقليات إثنيةً كانت أم دينية. وما كلام الدول الغربية عن ضرورة احترام نتائج الانتخابات والقبول بمبادئ اللعبة الديمقراطية مع تقديم الضمانات الكافية للأقليات، إلا دليل مؤكّد على عدم معرفة الغرب لحقيقة الأوضاع في المنطقة. أو أنه يتعمّد تجاهل هذه الحقيقة ويعمل بطريقة غير مباشرة على النفخ في نار النزاعات بهدف إعادة رسم حدود المنطقة من جديد. ويبدو أن بعض القوى الدولية والإقليمية تعمّدت خلق فراغات في الجغرافيا السياسية للمنطقة كي تملأها القاعدة وأخواتها التي استغلت فرصة الانتفاضات الشعبية وتراجع السياسة الأمريكية واهتزاز الأنظمة الحاكمة المرتبطة بها لترفع هامتها على امتداد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا داعية إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية وتطبيق شرع الله على عباده.

فمصر اليوم تختبئ خلف لحية وسبحة وعلامة سجود على الجبين، وتستغل تارة اسم الله في مكان، وتؤجر القرآن وآياته لمن يرسو عليه المزاد، وتتاجر بأسماء أنبياء الله وقديسيه، فتبيع وتشتري بتراثهم وحروف أسمائهم ما يخدم مصالح تجار الدين الجدد. فالفساد في العهد السابق كان فساداً سياسياً، أما الآن فهو فساد يلبس لباس الإمام ويخفي نفسية لص جبان. الأمر الذي وضع مصر على طريق حرب شوارع قد تتطور إلى حرب أهلية، بين الإخوان المسلمين والسلفيين من جهة، وبين باقي قوى الشعب المصري من جهة أخرى. ذلك أن تيارات الإسلام السياسي قد فرضت على الشعب المصري خيارين، إما الركوع والسجود لهم والقبول بديكتاتوريتهم الدينية، وإما استخدام الأسلوب الذي يفهمونه جيداً ويبرعون فيه والذي هو العنف.

وهكذا تحولت حكايات ليالي الثورة المصرية وأحلامها في ميدان التحرير إلى واقع مرير في دولة لا يمكنها توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها ولا تستطيع معالجة الأوضاع المعيشية الصعبة ولا أن تقدم حلولاً ناجعة للمشاكل الاقتصادية التي تخيم على البلاد، والتي كانت من الأسباب المباشرة للانتفاضة الشعبية التي رفعت شعار (عَيْش، حرية، كرامة إنسانية).

في هذا الجو من انعدام الثقة، يشعر ثوار مصر بِالغُبن، لأن الإخوان المسلمين كانوا المستفيدين الوحيدين من ثورة لم يطلقوها بأنفسهم، إذ نأوا عنها في البداية ثم أصابتهم الحمى الثورية فركبوا موجتها وسيطروا على دفتها وسيّروها لصالحهم. ويتخوف الناشطون في التيارات العلمانية والليبرالية من أن تيارات الإسلام السياسي التي سيطرت على مسرح الأحداث في مصر تخطط لإنشاء دولة إسلامية في مصر. ومن جهة أخرى، يبدو أن تيارات الإسلام السياسي لا تتبادل مشاعر الود، إذ يرى الإخوان أن السلفيين محافظون، رجعيون وساذجون، بينما ينتقد السلفيون الإخوان لأنهم تنازلوا عن مبادئ الإسلام في سبيل الوصول إلى الحكم.

ذلك أن قيادات الإخوان في مصر قد انخرطوا في العمل السياسي حسب تعاليم ميكافيللي، فبدؤوا بحماية حدود إسرائيل، وشرعوا في تنفيذ مطالب الدول الغربية وآخرها سحب تصريحات للرئيس مرسي وصف فيها اليهود، في وقت سابق، بأنهم أحفاد القردة والخنازير. كما أنهم خضعوا لكل شروط وإملاءات المصرف الدولي، حتى إنهم أصدروا فتاوى تنص على أن فوائد القروض الدولية ما هي إلا مصاريف إدارية!. بينما نجد أتباعهم في الوطن العربي يستعملون لغة خشبية عند مخاطبة أتباعهم، غير مدركين الفجوة التي بدأت تظهر في خطابهم المثالي وما يحدث على أرض الواقع في مصر. فبينما ينتقد الإخوان إسرائيل والصهيونية العالمية خارج مصر، نرى أن رئيس جمهورية مصر العربية يخاطب رئيس دولة إسرائيل بالعزيز، ونسي أن يديْ هذا العزيز ملوثتان بدماء الشعب العربي في لبنان وفلسطين وسورية ومصر.

أما التونسيون فإنهم أحيوا ذكرى الثانية للثورة بمشاعر يغلب عليها الأسى، بسبب تردي الأوضاع المعيشية وتدهور الحالة الأمنية في البلاد، ما جعل البعض يحنّ إلى أيام الرئيس السابق زين العابدين بن علي. وبدأ المشهد السياسي في البلاد يشهد استقطاباً حاداً في التوجهات السياسية والأيديولوجية بين الإسلاميين والتيارات اليسارية والعلمانية وترافق ذلك مع عودة قوية لرموز تحسب على النظام السابق.

فالترويكا الحاكمة اليوم في تونس (حركة النهضة الإسلامية، وحزبا المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات) تغلب عليها حالة من الارتباك في ظل تخبط في إدارة دفة الحكومة بسبب أزمات اقتصادية حادة تعصف بالبلاد، يضاف إليها غموض في أهداف المرحلة الانتقالية وغايتها. ذلك أن الإسلاميين ارتكبوا عدة أخطاء بعد وصولهم إلى الحكم، إذ لعبوا دورًا هامًا في عرقلة المسار الديموقراطي خلال المرحلة الانتقالية، وهذا ما يفسر أزمة الثقة في علاقاتهم بالعديد من قوى المجتمع التونسي، وخاصة النخب السياسية والاجتماعية.

وقد تجلت هذه الأزمة في عملية كتابة الدستور التونسي. وفي الوقت الذي يصف فيه الشعب التونسي العام الجاري بعام الدستور، يتخوف كثيرون من تداعيات الانقسام حوله، خصوصاً أن المسودة المعروضة للنقاش تتضمن فصولاً خلافية ومثيرة للجدل، يصفها البعض بأنها تؤسس لدكتاتورية جديدة تقوم على أنقاض دكتاتورية انهارت، في إشارة إلى هيمنة حركة النهضة الإسلامية على حكومة الترويكا والمجلس التأسيسي. ويأخذ بعض العلمانيين على الدستور الجديد في توطئته اعتماد (نظرية التدافع) الإسلامية التي طرحها ويؤمن بها رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي. وقد شهدت جلسات مناقشة الدستور التونسي،التي تمت على مرحلتين ولا تزال الثانية مستمرة حتى هذه اللحظة، معارك حقوقيّة بين المنظمات المدنية من جهة، وحزب النهضة الإسلامي من جهة أخرى. خاصة ما يتعلق بالحريّات ووضع المرأة، ولا سيما مشروع المادة التي تنص على مبدأ (التكامل) بين الرجل والمرأة عوضاً عن (المساواة)، ما أثار احتجاجات في صفوف المعارضة ومنظمات المجتمع المدني.

وبالنسبة إلى ليبيا، فقد أصبحت مركز الإمداد الرئيسي ل (تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي). فقوافل الأسلحة المسروقة من مخازن نظام القذافي، تتوافد إلى المناطق الشمالية من جمهورية مالي، التي تنشط فيها ثلاث من أكبر وأقوى المجموعات الجهادية في الشمال الإفريقي، وهي: (أنصار الدين) و(القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)و(حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا).

إن كل ما جرى في ليبيا ويجري حالياً في مالي ليس إلا مقدمة لما هو آت. فقد حذر قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا، الجنرال كارتر هام، من أن قوساً جهادياً يجري تشكيله في إفريقيا يمتد من نيجيريا، ويمر عبر مالي وليبيا، ليصل إلى الصومال. ووفقاً لذلك المسؤول الأمريكي، فإن الجماعات الإسلامية المتطرفة تزيد من تنسيق التعاون في ما بينها بشكل ملحوظ.

يضاف إلى ما سبق، أن الحكومة الليبية وجدت نفسها، في ظل غياب جيش يأتمر بأمرها وشرطة تحفظ أمنها، عاجزة حتى عن حماية أركانها في مواجهة مدن تحولت إلى ترسانات أسلحة وتيارات تسلّحت بمدافعها ودباباتها وآلاف من جندها الذين قاتلوا منذ البداية نظام القذافي والذين انضموا لاحقاً بفعل إغراء المال والسلطة إلى عصبياتهم القبلية والمناطقية. الأمر الذي قرر واقعاً مؤداه أن الدولة لاتملك من السلطة إلا اسمها، فهذه مدينة تغزو أخرى وتعلن حرباً لتصفية ثاراتها القديمة، ولا تملك الدولة إلا أن تباركها. وهذه مدينة ترفض تسليم متهم للعدالة وتصر على محاكمته لديها. وهذه الميلشيا تعتقل ذلك الشخص وتفعل به ما تشاء من التعذيب المفضي إلى الموت، بل وحتى التمثيل بالجثث بطريقة ربما لم تحدث حتى في الطقوس الوثنية، دون أن تستطيع الحكومة فعل شيء إلا التبرير أحياناً، والسكوت أحياناً أخرى. وانتهاءً فرضت هذه القوى على الحكومة (قانون العزل السياسي ومعايير النزاهة والوطنية) الذي يحرم كل من عمل مع القذافي من تقلد المناصب العليا، بل حتى المتوسطة، وحتى إذا لم يدن بارتكاب أي جرم.

وفي النهاية، مهما قيل ويُقال عن جنوح الإسلاميين للعملية الديمقراطية وقبولهم الدخول في لعبة صندوق الاقتراع، فإن هذا الأمر ما هو إلا خداع للنفس وجهلٌ ببنية العقل الديني. ففي مجال العمل السياسي، تؤمن تيارات الإسلام السياسي بديمقراطية الإله الواحد القهار الذي يجلس على عرشه في السماء … وهؤلاء عندما يصلون إلى السلطة لا يتخلون عنها بسهولة، لأن خروجهم من السلطة بديمقراطية الصندوق يعني فشل النهج الإلهي في تدبير أمور الكون. ومن وجهة نظرهم فإن الدفاع عن نهج الإله هو فرض عين عليهم، وهو قلب العقيدة النابض، ومن يدافع عن حق الله في السماء لا تعنيه حقوق البشر على الأرض.

العدد 1105 - 01/5/2024