الأتراك والأكراد… دموع ودماء

شكّلت القضية الكردية صداعاً مزمناً للحكومات التركية المتعاقبة منذ تأسيس الجمهورية التركية سنة 1923 حتى الآن، ذلك أن العقلية التركية لم تستطع حتى هذه اللحظة أن تحقق الاستقرار والعدالة في البلاد، لأنها ترفض الاعتراف بالآخر. هذه العقلية المتجذّرة في تركيا، منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك حتى عهد العثمانيين الجدد بقيادة أردوغان، قد تؤدي إلى اصطباغ المسرح السياسي التركي مجدداً بالدماء والدموع. وذلك لأن الأتراك حتى الآن لم يعرفوا بعد كيف يعيشون مع إخوتهم في الوطن متساوين في الحقوق والمواطنة والهوية والإنسانية، ومع محيطهم الجغرافي بسلام وتناغم.

فقد اعتمدت الحكومات التركية المتعاقبة سياسة التذويب والإلغاء والإقصاء وإنكار الحقوق السياسية والثقافية للمكونات العرقية والدينية في تركيا. وفي سبيل تحقيق ذلك عملت على إحراق القرى وتهجير السكان ومنعهم من التحدث بلغتهم الأم (الأكراد والأرمن والسريان). أما العلويون فالحكومة التركية حتى الآن لا تعترف بمراكز عبادتهم المعروفة باسم (بيوت الجمع) كمراكز عبادة دينية. وذلك بهدف إنشاء مجتمع أحادي الهوية على النمط النازي والفاشي. ذلك أن معظم البلدان والكيانات التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى تغلبت النزعة القومية لدى أكثريتها على طبيعة السلطة وممارساتها. فكانت سياسة إقصاء الأقليات وتهميشها، وصولاً إلى محاولة إلغائها بالعنف. والأقليات عموماً، والأكراد خصوصاً، في تركيا كانوا ضحية سياسات تدميرية غير مسبوقة، ولاسيَّما في عهد مصطفى كمال أتاتورك، وفي فترة التسعينيات من القرن المنصرم. وتشير جميع الدراسات والتقارير إلى أن استبداد الذهنية القومية كان يتقدم على كل ما عداه، ولم يتغير حتى في التفاصيل (الصغيرة)، مثل منع استخدام أحرف للكتابة غير موجودة في الأبجدية التركية.

 

مذبحة ديرسيم وبداية سياسة (التجانس الثقافي)

بين عامي 1937 و1939 وقعت مذبحة ديرسيم، في المنطقة التي تسمى الآن تونجيلي، وراح ضحيتها الآلاف من أفراد الطائفة العلوية والأكراد الزازيين، وشُرد  كثيرون من مناطق إقامتهم. ويرى الأتراك (1) أن ما حدث كان بسبب المقاومة المسلحة التي أبداها رؤساء الإقطاع المحلي المعروفين اختصاراً باسم AGAS ضد قانون إعادة التوطين(2) الذي نفذته حكومة تركيا في عهد الرئيس التركي عصمت إينونو. بينما ترى أقليات المنطقة أن ما جرى في ديرسيم هو جريمة إبادة جماعية أو إبادة عرقية نُفذت عن سابق إصرار وتصميم. ويستشهدون على ذلك بأن السيد رضا، قائد الحركة المسلحة في مدينة ديرسيم، وستة آخرون، قد أعدمتهم السلطات التركية في 19 تشرين الثاني عام ،1938 بتهمة التمرد ضد الدولة، في مدينة الأزغ التي توجّهوا إليها لإجراء مفاوضات سلام لإنهاء الاقتتال الدائر في المنطقة. واستخدمت القوات التركية بقيادة الجنرال عبدالله البدوغان شتى الأسلحة (3) وبضمنها الكيماوية، الأمر الذي أدى إلى مقتل أكثر من 60 ألف شخص حسب إحصائيات غير رسمية. لكن الأرقام الرسمية تشير إلى مقتل 13 ألفاً و806 أشخاص. وأخليت المدينة من سكانها الذين رُحِّلوا إلى مناطق مختلفة من تركيا.

مذبحة ديرسيم أعادت تسليط الضوء على المآسي التي تعرضت لها بنات الأقليات في تركيا، فبعد عرض فيلم بنات ديرسيم المفقودات عام 2009 للمنتج كاظم غوندوغان الذي أحدث رد فعل عنيف في المجتمع التركي، بدأ الناجون من المذبحة بالتحدث علانية عما جرى في تلك المذبحة التي استمرت عامين متتاليين. وقصة الفلم بدأت عندما قررت السيدة آصليهان كيريمتشيان (فاطمة يافوز)، إحدى الناجيات من المذبحة، الخروج عن صمتها الذي استمر 72 عاماً، أخبرت أولادها بقصتها الحقيقية. عندئذ بدأ أولادها برحلتهم في محاولة التعرف على جذور والدتهم، ونجحوا في العثور على بعض أقارب والدتهم الذين تناثروا في مختلف بقاع الأرض، واتصلوا فيما بعد بفريق عمل الفيلم الوثائقي (بنات ديرسيم المفقودات) ليصبح ممكناً القيام ببحث أوسع.

 

مأساة آصليهان (4)

كانت آصليهان بين الخامسة والسادسة من العمر عندما جمع الجنود الأتراك الناس في قرية هالفوري فانك الأرمنية بمنطقة ديرسيم، وقاموا بذبحهم أمامها. وعلى حد قولها فإن (رجلاً مسلحاً) خبأها في مستودع للحنطة. ورأت آصليهان من مخبئها كيف قام الجنود الأتراك بقتل الناس. أثناء الهجرة التي بدأت بعد المذبحة ركبت آصليهان مع عمتها إهسا وأبنائها الثلاثة القطار، رُحلت إلى قضاء باهشهير حيث سُميت آصليهان بفاطمة وخبؤوا أبناء عمتها ميشان وأبكار ومراد، وقاموا بختانهم.

زوّجوا آصليهان في عمر الثالثة عشرة برجل تركي يبلغ الخامسة والثلاثين. ولم تفصح آصليهان عن أصلها مدة طويلة، وكانت مجبرة على تغيير اسمَيْ والدَيْها المتوفَّيْنِ، من هاكوب إلى أيوب، ومن هافاس إلى هوى (حواء). في الوقت الحاضر بدأت المفقودات بالبحث بعضهن عن بعض والتكلم عن قصتهن. وقد عثر حتى الآن على 150 بنتاً مفقودة، ولكن قصة آصايهان كانت الأكثر ألماً. كانت أغلبية المفقودات من أصل علوي وكردي وكرمانجي، أما آصليهان فكانت ابنة عائلة أرمنية متنفذة. آصليهان التي تعيش الآن في مدينة سبارتا التركية، تابعت سرد قصتها الحزينة قائلة: (في باهشهير سلموني لعقيد. عندما عيَّنوه في منصب آخر سلموني لمدير يعنى بشؤون قيد المدنيين. كان أفراد عائلته يضربونني بالعصا يومياً، وبالنتيجة كسروا أصابعي. هربت من الاضطهادات. وفيما بعد أخذتني عائلة قامت باضطهادي مجدداً. في الثالثة عشرة زوجوني برجل يبلغ الخامسة والثلاثين، وقبل الزواج أجبروني على أن أعتنق الإسلام وأحلف على القرآن. بعدئذ استمرت حياتي بالجوع والعطش والعنف. كنت طفلة دون مأوى وأقارب. كبر أولادي في الشوارع. كنت أعلم أنني أرمنية، ولكنني لم أفصح عن ذلك. علم أولادي بأنني أرمنية في عام 1995 وبدؤوا بالبحث عن أفراد أسرتي الباقين على قيد الحياة، ولكن دون نتيجة. في عام 2010 عثرت ابنتي على شجرة عائلتي. آنذاك علمت بأنهم غيروا اسمي وشهرتي، علمت أن والدي كان مواطناً أرمنياً صالحاً في الدولة، وكان راعي كنيسة قرية هالفوري فانك. قاموا بترحيله إلى منطقة بولوي مينغيه حيث توفي. منتج الفيلم كاظم غوندوغان بصدد إعداد كتاب عن(بنات درسيم المفقودات) سيتضمن قصصاً ل 150 فتاة من ديرسيم نجون من المذبحة، ولكل واحدة من هؤلاء الفتيات قصة مأسوية عن كفاحها ونضالها في سبيل الحياة.

حزب العمال الكردستاني وبداية الكفاح المسلّح

في 27 تشرين الثاني 1978 تأسس حزب العمال الكردستاني PKK، وقد تحول الحزب بسرعة من مجموعة قليلة من الطلاب الماركسيين غير المؤثرين في الساحة السياسية الكردية في تركيا، إلى أهم تنظيم سياسي يقود عملاً مسلحاً ويحظى بتعاطف الكثير من كرد تركيا، وخصوصاً في أوساط العمال والمثقفين والفلاحين.

منذ عام 1984 بدأ حزب العمال الكردستاني نشاطه العسكري في مناطق جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية، وقد أعانت تضاريس المنطقة الوعرة مقاتلي الحزب في نضالهم ضد الجيش التركي. واتخذ الحزب من جبال قنديل الواقعة في شمال العراق ذو الأغلبية الكردية، قاعدة الانطلاق والملاذ الآمن لمقاتليه وكبار كوادره السياسية والعسكرية، بعد أن تحالف حزب العمال الكردستاني مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق بزعامة مسعود البرزاني.

وشهد عقدا الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي أكثر فترات الصراع بين الأكراد والجيش التركي دموية. فقد قام الجيش التركي بتعقب المسلحين، وفي أثناء ذلك قامت القوات التركية بتدمير آلاف القرى الكردية وتهجير العديد من الأسر من مناطق سكنها إلى الداخل التركي. كما تذهب بعض الإحصاءات إلى أن مجموع من قُتِلوا في هذا النزاع قد بلغ ما يقارب الأربعين ألف شخص حتى الآن، وترافق ذلك مع تدمير نحو 6000 قرية كردية وتهجير أهلها إلى مناطق تركيا الداخلية. هذا الصراع كلّف الحكومة التركية نحو 500 مليار دولار، مع أن مثل هذا الرقم كان كافياً لإحداث نهضة حقيقية شاملة في المناطق الكردية التي تتميز بالفقر وانعدام التنمية والخدمات مقارنة بالمناطق التركية، إلا أن أنقرة فضلت الحديد والنار في محاورة الأكراد.

مع إخفاق تركيا في القضاء على حزب العمال الكردستاني، كانت النتيجة إطالة الحرب وسفك المزيد من الدماء والأرواح والأموال وتعميق الجروح وزيادة الشرخ بين الأتراك والأكراد.

من هنا يمكن القول: إن القضية الكردية في تركيا تتلخص في النقطتين التاليتين:

 الأولى هي غياب إرادة تركية لحل هذه القضية سلمياً، فتركيا ولاسيما في عهد أردوغان تتحدث عن انفتاح من دون أن تقترب من جوهر القضية وتحاول حلها. فهي حتى الآن لا تعتمد إلا على الحل الأمني وخطابات التجييش القومي التي تزيد من حدّة التوتر في البلاد. وقد فشلت الحكومات التركية المتعاقبة حتى الآن في إبداء التعاطف مع ضحايا النزاع المدنيين من الأقليات، وفشلت أيضاً في أن تحدد مع من ستتحاور بشأن مطالب الأكراد، وهي تدرك في العمق أن لا محاور فعلياً بين أكراد تركيا سوى حزب العمال المصنف في خانة الإرهاب تركياً ودولياً. وهي حتى الآن تتهيب من فتح حوار مباشر معه.

 أما النقطة الثانية، فقد أثبتت التجربة التاريخية للصراع عقم النهج العسكري والأمني في إيجاد حل لقضية تاريخية تخص شعباً محروماً من أبسط حقوقه ويعيش على أرضه التاريخية.

الخطر الذي تعتقد تركيا أنه محدق بها وتريد تجاوزه، يفترض منطقياً أن تعيد أنقرة ترتيب بيتها الداخلي وتعيد تنشيط مسار الإصلاحات السياسية الذي يعالج مشاكل الأكراد وأوجاعهم وأحزانهم، كما باقي الأقليات في تركيا، كمقدمة لاستراتيجية لحل الصراع الطويل الأمد. وكان أردوغان قد بدأ بسياسة (الانفتاح الديمقراطي) عام 2005 فحقق نجاحات لا بأس بها، ثم تعثرت هذه الجهود عام 2009. وكانت حكومة أنقرة قد بدأت حواراً مع حزب العمال في عام 2005 أيضاً ثم عادت وانسحبت منه عام 2011.

ومع تورط الحكومة التركية في الأزمة السورية وتزايد أعداد المجموعات المتطرفة التي بدأت بالتمركز على الحدود التركية السورية، بدأت الأقليات على طرفي الحدود تشعر بمخاوف وتتحسب لمخاطر جدية ناجمة عن هذا الوضع الجديد. هذا الشعور بالخوف بدأ يساهم في دفع الحراك الداخلي في تركيا، إذ بدأت الاحتكاكات والصدامات بين المواطنين الأكراد والأقليات الدينية الأخرى وبين مجموعات تابعة للمعارضة السورية داخل الحدود التركية، وخصوصاً في لواء إسكندرون المحتل. وكان تورط جهاز الاستخبارات العامة التركي بقيادة هاكان فيدين، المقرّب من أردوغان، بتسهيل مرور المجموعات المتطرفة والأصولية، ومنهم عناصر تابعة لتنظيم القاعدة من دول عديدة إلى سورية، ودعم الحكومة التركية لأطراف متشددة في المعارضة السورية حوّلت الأزمة في سورية إلى (حرب طائفية)، أشبه بجرس إنذار للمؤسسة العسكرية التركية (ذات الميول العلمانية) التي بدأ القلق لديها يزداد، وخلافها مع الحكومة ذات الميول الإسلامية والنزعة الإمبراطورية يتسع. إذ يتخوف الجيش التركي من اللغم الكردي وقنبلة الأقليات اللذين إذا ما انفجرا مجدداً فسيشكلان تهديداً أمنياً حقيقياً للبلاد، لأن تأثيره سيطاول مناطق جنوب شرق تركيا (كليكيا) ولواء إسكندرون المحتل حيث الأغلبية السكانية هي للأكراد والأقليات.

 

 

الهوامش

1- اعتذر رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان الأربعاء23/11/،2011 باسم الشعب التركي عن مجازر مدينة ديرسيم التي تقطنها أغلبية من الأكراد العلويين بين 1937 و1939. وذكرت وكالة أنباء الأناضول أن أردوغان عرض وثائق تعود لآب 1939 تتضمن تفاصيل حول العمليات في ديرسيم التي راح ضحيتها 13 ألف شخص بين 1936 و1939. ووصف رئيس الوزراء التركي مجازر ديرسيم بأنها (الحادث الأكثر مأسوية في الماضي القريب). وقد عدَّ مراقبون هذا الاعتذار سياسياً وموجّهاً بالدرجة الأولى ضد حزب الشعب الجمهوري، إذ إن أحداث ديرسيم حدثت عندما كان حزب الشعب الجمهوري في السلطة.

2- في العام ،1934 صدر قانون في تركيا لإعادة التوطين، يهدف لاستيعاب الأقليات العرقية والقومية داخل البلاد. وقد شملت تدابيره النقل القسري للسكان داخل البلد، وذلك لتعزيز التجانس الثقافي (سياسة التتريك الإجباري).

3- وصل الأمر إلى قصف عنيف للمنطقة، حتى إنّ تقارير كثيرة تجزم بأنّ صبيحة غوكشن، وهي ابنة بالتبنّي لمصطفى كمال، شاركت شخصياً كقائدة طائرة عسكرية في قصف ديرسيم، وهو ما دفع حكام أنقرة إلى إطلاق اسم صبيحة غوكشن على ثاني مطار في إسطنبول (الأول اسمه مطار أتاتورك). وكان الكاتب التركي  الأرمني الشهير هرانت دينك الذي اغتيل عام ،2007 قد بدأ يتعرض لتهديدات منذ نشر مقالة قال فيها إنّ جذور صبيحة غوكشن أرمنية وخسرت عائلتها في إبادة عام 1915 فتبنّاها أتاتورك.

4- آصليهان: فتاة أرمنية نجت من المجزرة وأسلمت. إسلام أوزكان – إيلاف 21 أيار 2012 أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024