ماركس… أيقونة لا وثن!

دفن كارل ماركس (1818 – 1883) في مقبرة هاي جيت بلندن. نعاه إنجلز بقوله: ( لقد كانت رسالته في الحياة أن يُسهم بطريقة أو بأخرى في قلب المجتمع الرأسمالي.. وأن يُسهم في تحرير بروليتاريا العصر الحديث الذى كان أول مَن جعلها تعي مركزها وحاجاتها، وتدرك الظروف التي يُمكن في ظلها أن تحصل على حريتها.كان القتال ميدانه. وقد قاتل بعنف وإصرار ونجاح لا يباريه فيها كلها إلا قليل.. ومن ثم فقد كان أكثر رجل تعرض للعداء في عصره، ثم مات محبوباً محترماً مبكيّاً عليه من ملايين العمال الثوريين من زملائه، من مناجم سيبريا إلى سواحل كاليفورنيا، وفي كل مكان في أوربا وأمريكا. إن اسمه وعمله سيخلدان على مر العصور).

 وقال عنه شومبيتر في عبارات معبرة: (حقاً يختفي معظم ما يخلقه العقل أو الخيال بعد أزمنة مختلفة من عمليات الخلق تلك، قد تقصر أو تطول، لكن بعض هذه الآثار لا يختفي أبداً… فقد تعاني الاحتجاب، ولكنها تعود للظهور تارة أخرى… وهي روائع عظيمة… وما من ريب أن ذلك ينطبق على رسالة ماركس… إن ماركس لم ينشىء، بل كشف، لقد كشف ماركس، على الصعيد النظري، عن أفكار كبرى تُعبر عن واقع سير هذا العالم، وتنظر إلى قوانين حركته. كشف عن أفكار تبناها بالكشف كذلك مفكرون سالفون وغابرون، ولكن كان ماركس في كشفه أشبه بالصانع الماهر الذي يبرع في تنقية الجوهر النفيس مما يعتريه، ينتزع الجوهر دون أن يستهلك من أجزائه ما يقلل من قيمته، بل يستخرجه استخراجاً جلياً نقياً. ولايبخل، كذلك، في تشكيله على وجه راق براق).

 تلك أبجديات فهم ماركس والتعامل مع جسمه النظري، هذا النظر في مجمله، في تقديري، ربما وفَّر على إنجلز مشقة الدفاع عن رفيقه تجاه مزاعم يوهان رودبرتوس وناشر مؤلفه كوزاك، اللذين زعما أن ماركس قد استخدم أفكار رودبرتوس نفسها. ليس هذا تسليماً بزعم الزاعمين بقدر ما هو الانتصار لماركس، فرغم أن تحليلات ماركس قد قطعت شوطاً أبعد بكثير، إلا أنها في التحليل النهائي تأتي على نحو متفق، في مجموعها، في مجموعة من الأفكار النظرية الكبرى المعبرة والكاشفة عن السير الحقيقي لهذا العالم.

 ولقد كان لدى ماركس الوعي الكامل بذاك البصر، وكذا إنجلز، فحينما شرع صانعا البيان في إعداده كان واضحاً لديهما أنهما يقومان بكشف لا إنشاء.جاء في البيان الشيوعي: (….هناك حقائق أزلية مثل الحرية والعدالة وغيرهما تشترك في امتلاكهما كل الأنظمة الاجتماعية.. إن تاريخ المجتمعات حتى أيامنا هذه يتكون من صراعات تأخذ أشكالاً مختلفة طبقاً لعصورها. ولكن الشكل العام الذي تأخذه هذه الصراعات هو استغلال جزء من المجتمع لجزء آخر، وهي واقعة مشاعة تشترك فيها كل القرون السابقة (لاحظ هنا قوة التجريد)، ومن ثم لن ندهش إذا كان الوعي الاجتماعي لكل القرون، برغم تنوعه واختلافه، يتحرك داخل أنماط معينة شائعة، أنماط لا تنحل إلا مع اختفاء الصراع بين الطبقات). بيان الحزب الشيوعي، طبعة موسكو 1968.  فهل تختفي تلك الطبقية؟ وهل ذلك من الممكن إنجازه؟ تلك مسائل أخرى لن تكون خلافية إلا في مرحلة تالية، وغير مهمة، على الاتفاق على ما أورده صاحبا البيان في نصهما. إن إنجلز نفسه حين يهم بالدفاع عن رفيقه، يقدم دفاعاً يؤكد منحانا في الفهم، ولا ينفي مزاعم الزاعمين رودبرتوس وكوزاك؛ فهو يركن إلى أن تاريخ عِلم الكيمياء يُعين في استيعاب علاقة ماركس بالمفكرين السابقين عليه. إذ إنه في أواخر القرن الثامن عشر، كانت نظرية الفلوجستين هي المتربعة من جهة افتراض مادة ما تقبل الاشتعال بإطلاق، حتى كان عام 1774 وفيه وصف بريستلي الهواء الخالي من الفلوجستين، ومن بعده شييله الذي أطلق عليه الهواء الناري. ولم يكن بريستلي ولا شييله يدركان ماذا وصفا تحديداً، حتى أتى لافوازييه فكشف عن ذلك العنصر الذي كان غير مثمر في يد بريستلي وشييله، وسمّاه أوكسجيناً. هكذا يدافع إنجلز، فيقول: ( إن علاقة ماركس بالمفكرين السابقين عليه من جهة نظرية القيمة الزائدة، هي كعلاقة لافوازييه ببريستلي وشييله). السؤال هنا وهو مهم جداً: ما الذي كان فعلاً بيد كل مِن بريستلي وشييله ولافوازييه؟ في نفس اللحظة التي هيمن فيها الكمي غير الواعي على الكيفي تم اختزال فكر ماركس إلى مادة، ووعى ووجود وماهية وصراعات طبقية وتحالفات ثورية….وصارت تلك المفردات مع الوقت، مفردات ذات فهم انطباعي، تردد في إيقاعات ذهولية. مفردات لا يمكن أن تخلّف سوى الفصام والبلاهة مع قليل التعاطي، إذ إن كثيرها مهلك. مفردات (تنتمي إلى عالم الكم الجاهل بعالم الكيف)،سدت الطريق أمام النتائج الباهرة لاعتبار ماركس نفسه امتداداً (وفكرياً طبيعياً) لأكابر الناظرين في الرأسمالية وفحول منظريها: آدم سميث وديفيد ريكاردو.

 وسيظل التساؤل، دوماً، عما إذا كان كارل تلميذاً ريكاردياً فاشلاً، محل اعتبار ما دمنا آمنا بوحدة المعرفة الإنسانية دونما تقطيع لأوصالها أو مسخ لمعالمها. إن العبارة التي تقول (إن المعالم الرئيسية لعالم الاقتصاد اليوم لم ترسمها رؤية شاملة لعقل منظم، ثم نفذها عن عمد مجتمع ذكي، بل نفذها جمع من الأفراد كان محركهم الأول قوى غريزية وغير واعية لا تدرك الهدف الذي تتجه إليه). تلك العبارة لم يوردها ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي، إن الذي كتب تلك العبارة هو آدم سميث أستاذ الفلسفة الأخلاقية في كتابه (دراسة في طبيعة وأسباب ثروة الأمم).

 أما ماركس فقد كتب، بل بَلْوَرَ كعادته في الرأسمال (ما كتبه آدم سميث على استحياء ربما، وربما بارتباك). في الحالتين يسلط ماركس كعادته كذلك الضوء الساطع على الأماكن المعتمة والأفكار الضبابية حين يكتب: (إن اكتشاف الذهب والفضة في أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم، واستعبادهم ودفنهم أحياءً في المناجم وبدايات غزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء.. إن ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي، إن هذه العمليات الرغيدة هي العناصر الرئيسية للتراكم الأولى). إن الكمي غير الواعي، بمعزل عن الكيف، المنهج، هو المسؤول الأول والوحيد عن كل قطيعة معرفية في تاريخ البشر، وهو المتهم الأول والوحيد كذلك في ذلك الصدع في وحدة المعرفة الإنسانية وهجر التراث المشترك للبشرية. وإنه هو أيضاً الشاهد الأول والوحيد على الأفكار كافة التي تتشرب بها كراسات التعميم في الأصوليات والفرق والمذاهب كافة. إنها الأفكار التي استهواها الكم، فصار طبيعياً فقدها الرؤية بتواري الطريق عنها بعدما تعاشت عنه.

إن المنهج الواعي بوحدة المعرفة الإنسانية، هو الوحيد القادر على إعادة طرح الجسم النظري الماركسي كتراث مشترك للإنسانية جمعاء. ماركس كأيقونة… أيقونة لكل فكر مبدع خلاق… أيقونة لكل طموح إلى أكثر من الوجود. ماركس أيقونة لا وثن.

 

نقلاً عن مركز دراسات وأبحاث الماركسية واليسار

العدد 1105 - 01/5/2024