السيادة الوطنية والأمن الغذائي

تشهد المنطقة اليوم هجوماً جديداً تقوده العولمة بهدف السيطرة على اقتصاد المنطقة، والاستمرار في نهب ثرواتها، من خلال التوجه إلى اقتصاد السوق وتخلي الدولة عن دورها في الرعاية الاجتماعية، وخاصة في مجالات التعليم والصحة وغيرها، وقد بدأنا نشهد في بعض الدول العربية بعض مظاهر السير المتسارع في تطبيق العولمة، وخاصة في جانبها الاقتصادي، تقوده الإمبريالية العالمية معتمدة على أدواتها المحلية من سماسرة ومافيات همها الربح بأي شكل من الأشكال. ما سيؤدي، إلى إضعاف الدولة، وهذا ما تريده الإمبريالية الأمريكية لأنها تريدها ضعيفة هزيلة مهمشة في مواجهة مخططاتها واستراتيجيتها، كما تريد أنظمة حكم ضعيفة ليس بمقدورها الاستمرار على كرسي الحكم إلا إذا انصاعت إلى الأوامر الصادرة من المرجع الأكبر الغني والأقوى.

 أما الشعوب فليس لها أي حساب، وقد رضخ الكثير من الدول لهذه السياسة، وتبنت سياسات ما يعرف (بتوافق واشنطن وما بعده)، وانتهجت حزمة من السياسات الاقتصادية والمالية تتمحور حول: الخصخصة بجميع أشكالها، وإلغاء دور القطاع العام ،وتحرير التجارة والخدمات،وإلغاء الضوابط المنظمة للحياة الاقتصادية، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع إلى أدنى حدودها..

هذا الواقع بدأت آثاره الضاغطة والخطيرة تعصف بالإنسان العربي عامة وسورية خاصة التي كانت من أوائل الدول التي حققت الاكتفاء الذاتي في الغذاء، وخاصة في القمح. وصانت رغيف خبزها من عبث القوى الإمبريالية وهذا ما سبّب حسرة لقادتها. عبرت عنه كونداليزا رايس عندما سئلت: لماذا لم تستطيعوا إسقاط سورية حتى الآن على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتموها؟ فأجابت لأن سورية لم تستورد القمح من عندنا بعد. ما حتم على كل المواطنين وأصحاب الرأي والحريصين على وطنهم وشعبهم إثارة التساؤل التالي: ألا من سبيل للنهوض والحفاظ على رغيفنا المغمس بالكرامة الوطنية التي يفتخر بها وطننا وشعبنا؟

لقد بات مؤكداً أن إحدى الركائز الأساسية للأمن القومي والسيادة الوطنية، هي القوة الاقتصادية التي تعد العمود الفقري للأمن في مجالاته المختلفة. وإن الحجر الأساس في القاعدة الاقتصادية هو رغيف الخبز. والمدقق في الوضع الاقتصادي في معظم البلدان العربية يجد أن مشكلة تأمين الغذاء، وخاصة المواد الأساسية، المتعلقة بقوت المواطن تزداد حدة يوماً بعد يوم. على الرغم مما حققته بعض الدول العربية من الاكتفاء الذاتي من بعض السلع الغذائية، في فترات سابقة قبل وقوعها في فخ اقتصاد السوق بتسمياته المختلفة، والتي جعلت معظمها اليوم رهينة القوى الإمبريالية العالمية كمصر.

وبرأينا أنه سوف تزداد الأمور حدة في القريب العاجل نتيجة:

 1-اطراد نمو سكان الوطن العربي.

2-تفشّي الخلل في كيان النظام الزراعي العربي كله.

3-انحسار نظر القائمين على صناعة القرار الخاص بالصناعتين الزراعية والغذائية، إذ نمط صعود الإنفاق على استيراد الغذاء يثير هلع كل ذي عقل في وطننا العربي المثقل بالصراعات والأحزان والأشجان.

4-الشح في المياه، إذ تُجمِعُ معظم الدراسات أن المنطقة مقبلة على شح متزايد في الموارد المائية. ويمكن تلمس مظاهر هذه المشكلة في أربعة أحواض: حوض نهر الأردن،وحوض نهر دجلة والفرات، وحوض النيل، وحوض الجنوب اللبناني، الأمر الذي سيؤدي إلى سيطرة موضوع المياه على الفكر الاستراتيجي للقوى.

5-الوقوع في حبائل العولمة المتوحشة: التي قوضت التنمية الاجتماعية، بعد أن اقتنعت، معظم الحكومات، باتباع الوصفات السحرية وب (روشيتات) صندوق النقد والمصرف الدوليين: كرفع الدعم عن السلع الأساسية والغذائية، وتحرير الأسعار، والابتعاد عن الضمان الاجتماعي. هذه السياسات أدت إلى زيادة الأغنياء غنى، والقضاء على الطبقة الوسطى. وبالتالي زيادة عدد الفقراء والجياع. وهذا أدى إلى فتح أبواب الوطن على مصراعيها لدخول وخروج اللصوص دون رقيب أو حسيب.

وكما هو معروف إن مفهوم الاكتفاء الذاتي الكامل: (هو قدرة المجتمع على تحقيق الاعتماد الكامل على النفس والموارد والإمكانات الذاتية في إنتاج كل احتياجاته الغذائية محلياً). أي أن القطر أو الدولة أو مجموعة الدول المرتبطة في إطار معين تريد أن تكتفي ذاتياً، في تأمين الاحتياجات الغذائية لسكانها بصورة كاملة. فلا تكون عرضة لأي قدر من المخاطر، التي قد تفرضها ظروف خارجية. ويرتكز إلى حد كبير على التوازن بين الاحتياجات، معبراً عنها بالقدرة الشرائية للمجتمع، وبين الإنتاج المحلي، المتاح. وكلما ارتفع الدخل القومي عن مستوياته الدنيا أو زادت القدرة الشرائية للمجتمع زاد الطلب على الغذاء. فإذا لم تواكب الزراعة هذا الطلب اختل التوازن واحتاج تصحيحه إلى الاستيراد، ومن ثم الابتعاد عن الاكتفاء الذاتي.

 أما الأمن الغذائي، فيقصد به قدرة المجتمع على توفير احتياجات التغذية الأساسية لأفراد الشعب، وضمان حد أدنى من تلك الاحتياجات بانتظام. ويتم توفير الاحتياجات الغذائية الأساسية: إما بإنتاجها محلياً، أو بإنتاج جزء منها واستيفاء باقي الاحتياجات من خلال توفير حصيلة كافية من عائد الصادرات الزراعية تستخدم في استيراد هذه الاحتياجات. ويتضمن المفهوم العام للأمن الغذائي ثلاثة مكونات:

 الأول: الوفرة، بمعنى وفرة السلع الغذائية، وهذا يتحقق أساساً من خلال زيادة الإنتاج المحلي أو نسبة الاكتفاء الذاتي.

 والثاني: الاستقرار،بمعنى توافر السلع الغذائية طوال الوقت، وهذا يستلزم نظاماً متكاملاً للتخزين والتسويق.

الثالث، إمكان الحصول عليها،بمعنى أن تكون أسعارها في متناول المواطنين سواءً أن، تكون رخيصة السعر، أو أن تكون دخول المواطنين عالية بالقدر الذي يسمح لهم بالحصول على احتياجاتهم الغذائية بسهولة. وذلك دون تعريض احتياجات الأجيال القادمة.

 ويمكن أن يتحقق ذلك في الوطن العربي، على مستويين:

 الأول: على المستوى القطري: ويتمثل بقدر معقول من الاكتفاء الذاتي في السلع الغذائية الأساسية. وهذه سوف تختلف من قطر إلى آخر. ولكن سوف تكون في مقدمتها دائماً الحبوب (القمح-الأرز- الذرة، السكر، واللحوم والبيض والأسماك). كذلك سوف يختلف المقدار في كل منها من قطر إلى آخر، فقد يعتمد قطر من الأقطار على القمح، ويعتمد الآخر على الذرة، ويستكمل باقي احتياجاته استناداً إلى مبدأ الأمن الغذائي المتبادل.

 والثاني: على مستوى الوطن العربي: في حالة النجاح في إقامة السوق العربية المشتركة، وتطبيق القواعد السابقة نفسها. وهذا يجب أن يترافق مع تحقيق أمان الغذاء. ففي تقرير عن دور أمانة الغذاء في الصحة والتنمية تذكر منظمة الصحة العالمية: (لم يعد يكفي أن يتاح الغذاء بكمية كافية، وأن يشتمل على محتوى غذائي واف باحتياجات الجسم، ولكن يجب أيضاً إن يكون آمناً للاستهلاك، وألا يعرض صحة المستهلك للخطر أو الضرر من خلال العدوى أو التسمم.

وبالتالي لا بد للحكومات العربية من المبادرة إلى تحقيق المحفزات التالية، وهي:

– العمل على تنمية الريف العربي، والاهتمام بالمسالة الزراعية: من أجل الحد من آفة الجوع والفقر، التي باتت تهدد الوجود البشري. والانطلاق من إيجاد الحلول المثلى لإدخال الفقراء في العمل، وذلك بتشغيل من لا يعمل منهم، أو برفع مستويات دخول الباقين. ولتحقيق هذا الأمر لا بد من النظر إلى خريطة الفقر بطريقة أكثر عمقاً، وعليه فإن الطريقة المثلى إنما تتجلى في اتباع استراتيجية بعيدة المدى لتنمية الأرياف. وهنا لا بد من قرع ناقوس الخطر الجماعي الزاحف على الوطن العربي، والعمل على رفع العجز المعاشي عن فقراء الريف، وإصلاح البنى الأساسية والخدمات الريفية الرئيسة،وتحسين النقل والإسكان الريفي واتباع معايير تسعير مرنة لتسويق المنتجات الزراعية، وبذل استثمارات متواصلة هادفة إلى تصنيع فوائض الإنتاج الريفي في هيئة منتجات غذائية رفيعة السوية، قابلة للتصدير والمنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية.

-العمل على نشر ثقافة جديدة مغايرة لثقافة الاستهلاك الغذائي القائمة على التبذير، المتبعة حالياً، تساهم فيها كل قطاعات المجتمع، من الأسرة والمدرسة والمؤسسات التعليمية والثقافية والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية وكل قطاعات الشعب المختلفة. فمثلاً: يستورد السوريون ما قيمته 4,12مليار ليرة سورية من الدخان، و4,7 مليارات من البرغل، و434,22ملياراً من الرز، 6,1 مليار من الأجبان، و4,12 ملياراً من الشاي، و7,8 مليارات ليرة من البن، و4,2 مليار من المتة، على سبيل المثال لا الحصر.

– البدء بتحرير التجارة البينية العربية وخاصة في مجال السلع الزراعية. وهذا يتطلب زيادة فاعلية مؤسسات العمل العربي المشترك ذات العلاقة بهذا المجال، مثل صندوق النقد العربي، وكذلك المصرف الإسلامي للتنمية، في تمويلها. وتشجيع الاتفاقات القطاعية مثل: الهيئة العربية للحبوب. وزيادة فاعلية الاتحادات النوعية، مثل: اتحاد منتجي الأسماك واتحاد منتجي الأسمدة. وزيادة فاعلية المؤسسات القطرية المعنية بالاستثمار الزراعي،والتوجه إلى الصناديق العربية التنموية المشتركة ومنظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط لتبادر بأشكال وطنية شتى لدعم وتعزيز جهود البحث والتطوير الزراعية، والتعاون مع الدول الصديقة، وخاصة مجموعة دول البريكس. والتوجه شرقاً في إقامة الاتفاقيات الاقتصادية بشكل فعلي لا كلامي، خصوصاً في إقامة المشاريع في مجال الغذاء والصناعات الغذائية، بما يمكِّن من جلب الفوائض المالية العربية لاستثمارها داخل المنطقة العربية، وبناء نظام جماعي لمخزون طوارئ من الحبوب الغذائية.

– استثمار قدرات العلم والتكنولوجيا الحيوية: و تبنِّي شعار (معاً-كل منا ينجز أفضل) و إزالة القيود. الجمركية وغير الجمركية بين الدول العربية، عند تبادل المنتجات الزراعية. و تعزيز السوق العربية المشتركة، التي تؤدي لزيادة القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية في الأسواق المحلية والعالمية. وهذا مدخل أساسي،ليس فقط للمواءمة مع الظروف الجديدة التي تنشئها منظمة التجارة العالمية،ولكن للارتقاء بالاقتصاد القومي العربي والمحافظة على مصالح الأقطار العربية في ضوء التكتلات العالمية.

إن مسألة الأمن الغذائي باتت تشكل أحد الأخطار الرئيسة التي تهدد الوجود العربي وتقلق بال المواطن العربي الذي يعاني مشكلات كثيرة. فهل تبادر الحكومات العربية للنهوض بالحفاظ على لقمة عيش المواطن وأمنه الغذائي، لأنه على قدر استقلالية الشعوب في تأمين رغيفها يكون استقلالها وسيادتها؟!

العدد 1107 - 22/5/2024