«الرياح الثورية»… والحلم الضائع للشباب العربي

ظنّ المواطن المسكين في بلادنا العربية أن الرياح الثورية التي هبّت على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستكون بداية كل خير ليتفاجأ بأنها أصل كل الشرور… ظن أنها ستكون مفتاح الخير والفلاح مِغّلاقاً للشر والفساد … فإذا بها مفتاح للشر والفساد وجالبة لكل الموبقات، مِغّلاقٌ للخير والصلاح قاضية على كل حلم جميل بغد أفضل ومستقبل مشرق. وأصبحت الدول التي مرّت عليها عواصف الربيع في المنطقة عبرة لغيرها من الدول التي لم تزرها هذه الحُمّة الثورية، وأصبح حكماؤها يدعون شعوبها ليحمدوا ربهم ويشكروه على هذه النعمة التي منّ الله بها عليهم والخير الذي اصطفاهم له والكأس المرّة التي جنّبهم شربها، وبدؤوا ينصحون شبابهم الثوري بأن ينظروا إلى حال نظرائهم من سكان دول الربيع ويتبصّروا ويعوا المصائب التي تتتالى عليهم، والكوارث التي تصيبهم اقتصادياً واجتماعياً ومعيشياً، قبل أن يرفعوا قبضاتهم في الهواء مطالبين بالحرية وإسقاط النظام. فهم يعيشون في دول لديها مشاكل وتعاني متاعب، ولكنها على الأقل توصف بالدول. أما الدول التي أصابتها حُمّى الربيع فقد تضاعفت كوارثها وزادت مصاعبها وتلاشت مواردها وأصبحت مرتعاً لكل أنواع الموبقات والفجور والشذوذ الجسدي أو النفسي وحتى الأخلاقي … كانت دولاً وأصبحت كيانات بلا ملامح ولا هوية ولا هدف.

فالزلزال الذي أصاب دول الربيع العربي، أسقط الحكام، لكنه خرّب البلاد وحطّم نفوس العباد. لم يبن دولاً، بل أنتج طوائف ومذاهب وأسس مليشيات وقبائل، بدأ الفكر التكفيري العنفي الملغي لوجود الآخر يتسرّب إلى أفرادها من جميع الاتجاهات والمشارب ولو بنسب متفاوتة، بعد أن بدأت الأكثرية الدينية والمذهبية تتصرف بعقلية الأقليات، وعقدت صفقة فاوست مع الشيطان ووكلائه في المنطقة، وكان فحوى الصفقة الجلوس على كرسي الحكم في مقابل تأمين مرور أنابيب النفط والغاز. ولا يوجد أفضل من مبدأ السلطة الطبيعية ليحرّك الغرب غرائز الحكم وشهوات السلطة عند مجموعات يتمثل المستقبل بالنسبة إليها بالعودة إلى قواعد الحياة وأصولها في القرون الوسطى، لتعيد إنتاج الفوضى وتزرع الدمار والخراب، كي تحصد القوى الكبرى والرأسمالية العالمية المنافع والمكاسب وتزيد ثرواتها على حساب دموع أبناء هذه الدول ودمائها. ولا يهم من يحكم المنطقة، ملاكاً كان أم شيطاناً، مادام يقوم بدور الحارس الأمين والخادم المطيع  للكمبرادورية العالمية.

وكأن واقع الحال في بلادنا يقول: إنها لم تكن ثورة من أجل تغيير العقل وتهذيب الروح، وفتح أبواب الفكر والثقافة للعمل على تطوير المفاهيم السياسية والاجتماعية والدينية، وإعادة تعريف مفهوم الأخلاق الذي تشوّه نتيجة وقوع بلداننا في السبات العثماني مدة أربع مئة عام. فهي لم تكن ثورة لإطلاق عنان الفكر والخيال للاختراع والابتكار بل كانت ثورة من أجل تغيير الساكن في القصر الجمهوري، ليكبّل الشعب بعدها بقيود الجهل والتخلف ويطلق وحوش الطائفية البغيضة والمذهبية المقيتة. هذا الساكن الجديد تحركه نزوات جماعة فشلت في تحقيق أهدافها في وضح النهار، فتمرّست على أساليب العمل في الظلام. هذه الجماعة قررت في لحظة أنها تستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وبعث الحياة من جديد في عروق دولة لم يذكرها التاريخ الحديث إلا بالمجازر ضد البشرية.

فالفلسفة والأساس اللذان قام عليهما (ما سمي بالربيع العربي) لجهة الشعارات والهتافات التي أسقطت نظماً دون أن تحيي دولاً، أثبتا بما لا يدع محالاً للشك أن هذا الربيع ليس إلا مظهراً من مظاهر الخريف الشاحب الذي ينذر بشتاء عاصف بدأت بوادره تتوالى مع هبوب الرياح العثمانية القادمة من الشمال حاملة الموت والدمار. وقد ترافقت هذه الرياح العثمانية مع رياح السموم الشرقية القادمة من ممالك النفط والغاز المحمّلة برسائل الحقد والجهل والتخلف. ذلك أن مطبخ (أوغلو-الخليج) السياسي برئاسة الشيف الأمريكي قد أعد وصفة لتغيير هوية المنطقة ودورها الحضاري، ليعمل بعدئذ على القضاء على رسالتها الإنسانية، ومحاولاً السيطرة على موقعها الاستراتيجي بهدف تفكيك بنية دول المنطقة والإجهاز على الرؤى الوحدوية والتكاملية لصالح شتات من الكيانات التي ستدخل في دوامة صراع المذاهب وطاحونة العصبيات القومية  والعرقية والخصوصيات الثقافية والدينية لهذا النسيج البشري، وخصوصاً في منطقة بلاد الشام ووادي الرافدين. ولتكون نتيجة هذه الصراعات تكريس وجود إسرائيل في المنطقة قوة مسيطرة تسعى جميع الأطراف لكسب رضاها. وتكون الإمبريالية العالمية قد حققت أهدافها بالسيطرة على مقدرات بلادنا وثرواتها وأمّنت مستقبل ربيبتها إسرائيل وحققت حلمها باستعادة أرضها التاريخية (من الفرات إلى النيل)، لتكون القاعدة الرئيسية للسيطرة والتحكم في المنطقة.

هذه الثورات كانت جولة من حرب بين شيوخ الظلام وشباب أراد البحث عن نور الحياة، معركة أراد الشيوخ منها التهام روح الشباب وتدمير حلمهم تارة بالعنف والقتل، وأخرى بتشويه السيرة وتلفيق الاتهامات، ومرات عديدة باللف والدوران واستخدام الأساليب الخبيثة التي تدفع الشبيبة من متاهة إلى متاهة. هؤلاء الشيوخ لا يفكرون إلا بعقليات قديمة مستهلَكة، تمرر في دقائق ما يستحق أسابيع وشهوراً من الدراسة والتمحيص، وتتأخر أياماً لتقرر ما يحتاج إلى تدخلات سريعة. هؤلاء الشيوخ يعملون على سرقة الفرحة من عيون الشباب وعلى تدمير أحلامهم في غد مشرق يعيشون فيه بسعادة وكرامة. شيوخ أرواحهم يابسة وقلوبهم جافة وقاسية، لم يتذكروا أن هناك شباباً قد دفع حياته ثمناً لوهم الحرية، الذي بدا لوهلة أنه حقيقة واقعية، وهم يعتقدون أنهم تخلصوا من شيوخ وكهنة معابد الظلم والاستبداد.

لقد خاضت شعوب العالم في مسيرتها من أجل نيل الحرية والعدالة و تحقيق الكرامة الإنسانية صراعاً طويلاً وقاسياً. هذا الصراع كان عنيفاً ودموياً مع سلاطين الاستبداد وكهنة الإقطاع وشياطين البطش والقمع الذين طالما احتكروا رواية التاريخ واحتقروا الإنسان، وتحكّموا في مصيره. فالتاريخ الذي نقرؤه وندرسه كُتِبَ بحروف الاستبداد وحبرٍ من دمِ المُضطهدين. بينما الحرية لم تكن سوى شعاع أمل وبصيص نورٍ في نهاية نفق مظلم، عَمِلَ رواد فكر التنوير على حمل راياتها والنضال في ساحاتها، على مدى العصور، حتى تصبح حقيقة واقعية. أما أمراء الجهل والظلام، ونبلاء الظلم والاستبداد، وشيوخ وكهنة معابد التخلف والاستغلال فاعتقدوا دوماً أن الحرية هي محض هواجس وأضغاث أحلام، لا تصلح إلا أن تكون عناوين للفوضى والهياج من الممكن أن تخدم مصالحهم وتحقق أهدافهم وتزيد أرباحهم، إن هم عرفوا كيف يستغلون الفرصة ويوظفون الأحداث لمصلحتهم.

لكن الإنسان لا يستطيع أن يكف عن الحلم، لأن الحلم هو غذاء الروح، كما أن الطعام غذاء الجسد. وغالباً ما تخيب أحلامنا وتُحبط رغباتنا خلال مسيرة حياتنا، لكن هذا الأمر يجب أن لا يمنعنا من الاستمرار في كفاحنا من أجل أن نجعل الحلم حقيقة واقعية، وإلا ماتت الروح فينا. وهذا ما تريده الرأسمالية العالمية لنا، قتل الروح لدينا حتى نصبح كالآلات ننفذ رغباتها ونحقق مشيئتها.

العدد 1104 - 24/4/2024