الحق في الخطأ والمخرج الممكن

دائماً كنا نبحث عن جذور ومرتكزات للقيم الرفيعة في ثقافتنا، خاصة بعد إنجازات الثقافة الغربية في مجال فكر الحداثة والتقدم المرتكز على قيم رفيعة، والتي تعمل على إزاحة قيم الشعوب لتحل محلها.

لقد كنا في حالة دفاع عن ذات مهددة بالإقصاء، وعن موقع حضاري يراد محوه. ولم يكن لدى المنافحين سوى اللجوء إلى القيم التي أرساها الإسلام، والتي هي موضع هجوم الغرب الذي لا تُخفي بعض جهاته العداء للإسلام، وتتجاهل الصوت الإسلامي عن عمد ربما، لاستبعاد الندية. وما من شك في أن الحداثة تأسست في الغرب، لكن على قيم إنسانية، لا غربية فقط.

برز في العصر الحديث اهتمام العالم بهذه الحقوق في وثائق أهمها: إعلان الاستقلال الأمريكي ،1776 وإعلان حقوق الإنسان والمواطن من قبل الثورة الفرنسية ،1789 والدستور الذي أعلنته هذه الثورة 1793. ويتوج هذه العهود: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 10/12/1948. وتتحدث هذه الوثائق عن حق الإنسان في الحياة والحرية والاعتقاد والرأي والعمل، وغير ذلك مما أصبح شائعاً. وقد أصدر العرب إعلانهم لحقوق الإنسان، وصدر عن الجامعة العربية في 15/9/1997 بتأخير يزيد على القرنين عن غيرهم.

لم يكتف بذلك، ومع التأكيد على ضرورة الانطلاق من مبادئ حقوق الإنسان، لايزال الطموح نحو تحقيق انعتاق الإنسان بالمزيد مما يقيله من عثراته، وإن بدا هذا من باب الالتفاف على ما يوقعه بحق نفسه والآخرين، فتبدو الحقوق منتهكة، وتحتاج أن تقال عثرات المنتهكين. ومن أهم المبادئ التي يتحدث عنها، على سبيل إلحاقها بهذه الحقوق، في مواقع الثقافة المتقدمة (الحق في الخطأ). بمعنى أن من حق البشر أن يقعوا في الخطأ. وهي فكرة لها وجاهتها، خاصة عندما تعين الإنسان في الخروج من مآزقه.

لست خبيراً قانونياً لأتحدث عن الحق في الخطأ من هذه الزاوية، وإذا كنت أتخيل في هذا المبدأ شكلاً من أشكال الالتفاف على القيم والتبرير لما لا يبرر، أو مخرجاً للمرتكبين أمام ضمائرهم ومجتمعاتهم وأمام القوانين، واستقالة من المسؤولية، فإنني أرى أن البشرية قد تكون مضطرة في بعض المواقع لأخذ هذا المبدأ بالحسبان.

البشر يخطئون من يوم وجدوا إلى الآن، وسيظلون كذلك. ما يعني أن ارتكاب الأخطاء سمة بشرية لا فكاك منها، وليس هناك من لا يمكن أن يقع فيها، ولا ينزه عنها سوى الذات الإلهية عند المؤمنين. وإذا كانت السمة على هذا المستوى من الحتمية، فيجب النظر إليها من منظار تسامحي، باعتبارها شراً لا بد منه. والمنظار التسامحي لا يعفي الخاطئ من المسؤولية عما ارتكب، ولو كان الأمر كذلك لأصبح مبرراً لأخطاء الناس وإهمالهم أكثر، أو لعدم تدقيقهم فيما يفعلون، وألا يحرصوا على الأداء الجيد كي لا يقعوا في الخطأ.

عند الحديث عن خطأ، نكون خارج القصدية أو النية المبيتة، وألا يكون احتمال ارتكابه كبيراً، ما يعني أن من يقوم بعمل ما يريد أن يؤدي عمله بكثير من الحرص، ومع ذلك يكون أحد الاحتمالات أن يخطئ الإنسان أثناء انخراطه في أداء عمله، على الرغم من الاحتياطات لتجنب الخلل.

ومع ابتعاد الخطأ عن القصدية، فإن محاسبة الناس على أخطائهم، كانت أحد مشاغل القوانين والمحاكم عبر التاريخ، حماية للمجتمعات من الإهمال والتهور، وتأكيداً على واجب الحرص والتدقيق في أداء المهمات. مع تصور أن هناك عملاً يمكن تأديته بحتمية ألا يكون فيه خلل أو خطأ، هو أمر بعيد الاحتمال والمعقولية، وإن كان الأساس في الأعمال أن تكون نافية للأخطاء وخالية منها. من جهة أخرى، هناك أعمال أو حراكات تبدأ مقصودة هادفة ومخططة، ثم ينتج عنها أخطاء فاحشة، أو تستتبع سلسلة من الحراكات التي تكرر الأخطاء والأخطار، بحيث يجد الناس أن لا منجى لهم من ذلك. وقد تحدث كوارث تصبح محاسبة المرتكبين عليها وتلافي خطرها خارج الإمكان، وستظل الأمور كذلك دون مهرب، ويكون من حق الناس وقف المأساة كحق مفضل على أي حق سواه أو على أية نتيجة متوخاة، ويحتاج هذا إلى مبدأ يبنى عليه.

ليس من حق أي كان أن يؤذي الآخرين أو يرتكب بحقهم دون أن يتحمل مسؤولية ما يفعل. لكن عندما نفكر في ملجأ أو مخرج لما يجري في سورية، حيث بلغت الأخطاء حداً يفوق الحصر والوصف، وإذا كانت لدينا تصورات كافية لتحميل جهة ما المسؤولية، فهل يمكن أن يحقق ذلك الأغراض المرادة والعدالة المطلوبة؟ وأيهما تكون له الأفضلية: السعي لنتائج غير مضمونة ولعدالة بعد تضاعف المأساة، أم وقف الدماء والدمار؟

لا يمكن حصر المرتكبين، ولا يتساوون في فعلهم ومسؤوليتهم، وما من شك في أن كل طرف سيحمِّل المسؤولية للطرف الآخر، فضلاً عن مسؤوليات الجهات الخارجية. والخوف من العقوبات القادمة قد يزيد العناد والإصرار، ولو أعدم كل مرتكب ألف مرة متتالية، لما أنجزنا حلاً شافياً لما نحن فيه من وقائع لا يقبلها عقل ولا ضمير، وتخرج عن أي شريعة أو قانون.

ليس بالإمكان توصيف ما يجري بدقة، إذ يبدو أنه تدمير البلاد تدميراً مقصوداً، وقتل للبشر والقيم والمعاني التي نتغنى بها ونحن نقتل باسمها. فندمر مظاهر الحياة الكريمة  في موقع كان منبتاً للقيم ومظاهر الحياة الكريمة. وقد أظهر البشر من الوحشية في حراكهم هذا ما يخرجهم من عالم القيم والإنسانية، إلى عوالم لا تجتمع مع ما يتغنون به من مبادئ ونشدان لمستقبل ينعتق فيه الإنسان. فلا نستطيع أن نقدم للإنسان أية خدمة رفيعة عندما نقتله، حتى ولا خدمة وضيعة. والقتل هو المشروع المستمر يومياً وعلى مدار الساعة، مع ما يستتبعه من دمار.

إن تبعات ما يجري تتحملها أطراف لا إقالة لها من هذه المسؤولية، والعدالة تقتضي محاسبتها، وكل تجاوز لتحقيق العدالة ومحاسبة المرتكبين لن يكون إلا تقصيراً في حق أو عن أداء واجب. لكن كيف يمكن أن تتحقق هذه العدالة التي تقتضي معاقبة من لا يمكن حصرهم مع تفاوت في المسؤولية. ولا يمكن إعادة الحقوق لأصحابها لأن من مات لا تنصفه أية عدالة. كما أن العدالة يجب أن تطول من لا قدرة على إخضاعهم لها، ممن هم في الخارج ومن الخارج، مع من يجب أن تطوله في الداخل. وتقتضي العدالة أيضاً إعادة البلاد إلى وضع الطمأنينة والسلام وتجاوز ما مر بها، وهذا قد لايحصل إلا بعد سنين طويلة، ما يعني أن لكل مواطن حقاً يجب أن يحصل عليه، وإن لم يكن حقاً في دم أو مال، فهو حق في السلام والطمأنينة وتوفر الحاجات والخروج من القلق والدموع على الأقارب والجيران وأبناء الوطن عموماً، وفي اللحمة الاجتماعية المتضررة. إذ لم يكن بالإمكان إعادة الدماء إلى الشرايين والأرواح إلى الأجساد والدموع إلى المآقي، فلنعمل لتوفير ما بقي منها.

من يكابر ويركب رأسه أملاً في مجد لاحق ومستمراً في الخطأ، فلن يكون موقفه مساعداً لشعبه وبلاده في الخروج من المحنة. والإصرار على تحقيق العدالة، مشابه للحلم في تحقيق النصر عند كل طرف. وإذا كان النصر العسكري ممكناً -وهو عسير في كل حال- فإن النصر للبلاد والعباد لن يكون في استمرار الموت. من هنا جاءت فكرة التأسيس على مبدأ غير مرغوب، أصبح الحديث عنه شائعاً في موازاة حقوق الإنسان، هو الحق في الخطأ. لكن ليس الحق في استمرار الخطأ، ولا تبريراً لارتكابه، بل اعتباره مخرجاً ونصراً.

وبما أننا أمام استحالة عودة الأمور إلى ما كانت عليه، وأمام صعوبة قريبة من الاستحالة، في وقف ما يجري عسكرياً مما يوقع المزيد من المآسي، فإن خيار الذهاب إلى إقرار مبدأ الحق في الخطأ لتجاوز المحنة، يبدو أمراً ضرورياً.

والانطلاق من هذا المبدأ يعني القول: كفى، لقد ارتكبنا الكثير من الفواحش وعجزنا عن تحقيق الأهداف، ومن غير المأمول إنجازها دون المزيد من الارتكابات التي قد تصل إلى حد يودي بالبلاد وما فيها ومن فيها. إذاً لا بد من أن يستشعر الجميع حداً للمسؤولية عما يجري، فنقول إننا نريد الخروج من الخطأ والإقلاع عنه.

إذا كان ارتكاب الخطأ حقاً في مفاهيم الثقافة المتقدمة، فإن الإقلاع عن الخطأ إلى حدود من الصواب والتعقل، ولو جاء ذلك متأخراً ونتيجة العجز عن الفعل، يكون هدفاً، بل خلقاً رفيعاً. وهذا يقتضي الاعتراف أولاً. والاعتراف يكون بأن يعترف بعضنا ببعض حقوقياً واجتماعياً، كمكونات وطنية أولاً، وأن نعترف بمسؤوليتنا عن بلادنا وما يجري فيها، وبما نرتكبه وما ارتكبناه بحق بعضنا وبحق الوطن. فيكون الاعتراف الواعي والعقلاني، هو خير منطلق لنحقق غاية الخروج من المأزق، قائلين: لقد آن لنا أن نرعوي. فيكون الحق في الخطأ منطلقاً للخروج من حالة الخطأ، حتى لو بدا أننا نضحي بالعدالة التي لا سبيل إليها إلا في خيال غير واقعي. وثائق وعهود وإعلانات حقوق الإنسان، وما تفرع عنها -وهو كثير- انعكاس لثقافة الشعوب ووعيها وإرادتها. وعندما يدخل الخطأ في هذه المنظومة أو يلحق بها، فيجب أن يتبعه وعي واقتناع بأن على الإنسان أن يتحمل مسؤولية أعماله، ومن هذا المنطلق تأتي الدعوة لتحمل مسؤولية ما جرى لسورية من قبل أبنائها، بالخروج من هذه الحالة المحنة، وهذا أبسط أشكال المسؤولية، وربما أسلمُها، أي وقف المأساة عند الحد الذي وصلت إليه.

وإذا تحدثنا بلغة إيمانية نقول: إنه التوبة والاستغفار والندم على ما فرطت أيدينا، والاعتراف كما يعترف المؤمن أمام الكاهن في الكنيسة التماساً للمغفرة. لكن هل الخروج أو العودة تحت ضغط الشعور بالخطأ، يكون إلى الصيغة الاجتماعية السياسية التي كانت سائدة قبل الأحداث، وكأن شيئاً لم يحصل؟ وفي الجواب نقول: لا، إن ما جرى يؤكد عدم القدرة على الاستمرار بالصيغة السابقة، ولا بد من منطق جديد، وصيغة جديدة للحراك في البلاد، على أسس تؤكد قيم الوطنية والحكم الصالح حسب مفاهيمه العصرية.

لقد أنجز العرب في الجاهلية حلف الفضول تكريساً للقيم الرفيعة، ونقضاً لنقائصهم، وجاء الإسلام فأيد هذه القيم. ونحن الآن بحاجة إلى نبش مبادئ حلف الفضول، والطاقات والإرادات المنسجمة مع حقوق الإنسان والأوطان أولاً، داعين إلى رفع الظلم عن البلاد والعباد، وإحياء مبدأ التسامح الذي قد نجد له مرتكزات في ثقافتنا وثقافات الشعوب. وأن نضيف إليها لتكون حاكمة على إرادتنا في إيجاد المخارج من مأزقنا الذي صنعناه بأيدينا، دون أن نكون قادرين على إنجاز مخرج حتى الآن. إننا اجتهدنا فأخطأنا، وكان ثمن اجتهادنا فادحاً.

في حال الاحتكام إلى مبدأ الحق في الخطأ والانطلاق منه، يكون من الممكن أن نرى أننا حاكمنا أنفسنا أمام ضمائرنا وعقولنا وأمام العالم، وأوقعنا بأنفسنا عقوبة الندم والتوبة، إضافة إلى كل ما خسرناه وإلى ذلك العقاب الجماعي الذي أصاب الوطن والمواطنين.

العدد 1105 - 01/5/2024