في الذكرى ال 45 لهجوم تيت هو شي منه والنضال الفيتنامي من أجل التحرير

تمر في هذا العام الذكرى الخامسة والأربعون لهجوم تيت في فيتنام الذي بدأ في ليل 30 كانون الثاني ،1968 واستمر أشهراً عديدة. أطلقت هذا الهجوم جبهة التحرير الوطني في وقت واحد في 140 مدينة وبلدة في كل مكان من فيتنام الجنوبية، وأخذ جيش الولايات المتحدة وقواته الدمية على حين غرة تماماً.

جاء في كتاب الصحفي الأسترالي ولفريد بورشيت (فيتنام ستنتصر) الصادر في عام 1968: (هاجمت قوات جبهة التحرير الوطني، دون أية وسائل نقل أو اتصالات حديثة، تقريباً كل منشأة عسكرية وإدارية رئيسة في فيتنام الجنوبية في سرية تامة، تحت أنف أكثر الآلات العسكرية تطوراً تنزل إلى ميدان المعركة على الإطلاق).

على الرغم من أن البنتاغون والرئيس جونسون أعلنا فشل الهجوم، إلا أنه كشف تماماً إفلاس النظام الدمية في سايغون وجيش الولايات المتحدة في فيتنام، وكان توضيحاً مثيراً للطابع الشعبي للنضال التحرري الفيتنامي، وأظهر قوة المقاومة في الوقت الذي كان يعد فيه قادة الجيش الأمريكي بنصر سريع في الحرب، ويتباهون أن جبهة التحرير الوطني في حالة هروب.

بدلاً من ذلك أعفي الجنرال الأمريكي ويستمورلاند من القيادة، وبعد أشهر أعلن الرئيس ليندون جونسون أنه لن يترشح لإعادة انتخابه. واضطرت واشنطن في الحقيقة إلى الموافقة على إجراء محادثات مع الفيتناميين حول إنهاء الحرب، في الوقت الذي انتشرت فيه في  الولايات المتحدة مظاهرات حاشدة ضد الحرب.

لم يقتصر نضال فيتنام من أجل التحرير على حدود فيتنام، أو حتى جنوب شرق آسيا. لقد كان مرتبطاً ومُلهِماً لحركات الشعوب في كل أنحاء العالم، ليصل من آسيا إلى إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وإلى داخل المراكز الإمبريالية في أوربا وأمريكا الشمالية.

وكما أنه لا يمكن إعطاء تحليل للثورة الكوبية دون مناقشة دور فيديل كاسترو في الثورة، كذلك يجب أن يبدأ كل تحليل للثورة الفيتنامية بهوشي منه الذي يعد عالمياً المهندس المؤسس للنضال التحرري الفيتنامي.

ولد هو في قرية صغيرة في وسط فيتنام في 19 أيار ،1890 ودرس باللغة الفيتنامية والصينية والفرنسية، وقادته حياته المبكرة إلى النضال ضد الاستعمار، ضد الاحتلال الفرنسي لبلده. وفي عام ،1911 بعد ثورة ضد الاستعمار في الصين، وقّع هو عقد عمل مع سفينة فرنسية لمغادرة فيتنام. وطاف على نحو واسع كملاح، وتمكن من أن يرى مباشرة ظروف الناس الخاضعين للاستعمار الفرنسي في إفريقيا والشرق الأوسط، وأثر ذلك بعمق على تفكيره. وعاش لفترة في الولايات المتحدة في عامي 1912  1913 في هارلم بنيويورك وهوبوكن في نيوجرسي، وعمل في غسل الصحون وأعمال وضيعة. وخلال وجوده في الولايات المتحدة تعرف مباشرة على أهوال العنصرية.

ذهب هو عشبة الحرب العالمية الأولى للعيش في إنكلترا، حيث اهتم كثيراً بالنضال الإيرلندي ضد الحكم الاستعماري البريطاني. وانضم أيضاً إلى منظمة سرية لمغتربين آسيويين في  لندن تسمى عمال ما وراء البحار. وفي عام 1917 انتقل إلى فرنسا للانضمام إلى وطنيين فيتناميين آخرين يناضلون من أجل بلدهم، وانتسب إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي واتخذ اسم نغوين أي كوك (نغوين الوطني).

 

هو شي منه والأممية الثالثة

في الوقت الذي كان فيه الإمبرياليون يقطِّعون العالم إلى مستعمرات تابعة لأوربا والولايات المتحدة، كانت الثورة البلشفية تفضح دور القوى الإمبريالية في العالم الاستعماري، وتطرح موضوعات لينين حول حق الشعوب في تقرير المصير. وكان لهذا تأثير قوي على هوشي منه الذي وصف تحوله إلى الشيوعية في مقالة بعنوان (الطريق التي قادتني إلى اللينينية).

تابع هو المناقشات حول البقاء في الأممية الثانية (التي أيدت أحزابها حكوماتها الإمبريالية في الحرب الإمبريالية) أو الانضمام إلى الأممية الثالثة التي نظمها البلاشفة. وقرر الانضمام إلى الأخيرة.

وأصبح هو شي منه عضواً مؤسساً للحزب الشيوعي الفرنسي، واحتفظ لبقية حياته بتصور بناء تضامن بين مواطني المستعمرات الذين تضطهدهم الإمبريالية الفرنسية، وبين الطبقة العاملة في فرنسا.

قضى هو شي منه عدة أعوام في الاتحاد السوفييتي والصين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي متعاوناً مع ثوريين ماركسيين آخرين في تأسيس الحزب الشيوعي في الهند الصينية.

صاغ هو برنامج الحزب في ذلك الوقت، وكان برنامجاً ثورياً من أجل تغيير جذري لعلاقات الملكية في المجتمع. ومنح الشعب الفيتنامي الثقة السياسية، مدعومة بمنظمة قوية مركزة، كي يشهر السلاح ضد الفرنسيين ويبدأ نضالاً طويلاً من أجل التحرير.

تصاعد النضال التحرري في فيتنام بعد تأسيس الحزب وإعلان برنامجه. لم يتمكن هو من العودة إلى فيتنام في ثلاثينيات القرن الماضي، لأنه كان ملاحقاً من قبل الشرطة الفرنسية، ولكنه كان منظِّماً من الطراز الأول لمناضلي التحرير سواء داخل البلد أو خارجه. اعتقل هو وسجن عدة مرات. وقد سجنته قوات تشان كاي تشيك عامين كاملين في الصين.

وأخيراً تمكن هو في عام 1941 من إقامة قاعدة في كهف في باك بو في شمال فيتنام حيث أسس مع فون نغوين جياب، عصبة من أجل استقلال فيتنام، أو فييت منه، التي قادت النضال من أجل الاستقلال ضد الاحتلال الفرنسي والياباني لفيتنام خلال الحرب العالمية الثانية.

تمتعت فييت منه بشعبية كبيرة جداً في النضال ضد الاستعمار، لدرجة أنها تمكنت بعد أسابيع من هزيمة الجيش الإمبريالي الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية، في 2 أيلول ،1945 من إعلان إقامة واستقلال جمهورية فيتنام الديمقراطية برئاسة هو شي منه الذي أدان في خطاب إعلان الاستقلال الحكم الإمبريالي الفرنسي في فيتنام.

ولكن الإمبرياليين الفرنسيين بدؤوا بعد أسابيع من هذا الإعلان، وبدعم عسكري ومالي من الولايات المتحدة، الحملة لإعادة غزو فيتنام، ودشنوا تسعة أعوام أخرى من الحكم الاستعماري الدموي الفرنسي.

ولكن القادة الفيتناميين الذين اكتسبوا خبرة أعوام من التدريب العسكري في الصين خلال النضال الثوري هناك، كانوا مستعدين لشن حرب أنصار ضد الغزاة. وفي غضون ذلك أعطى انتصار الثورة الصينية في تشرين الأول 1949 الفيتناميين حليفاً قوياً إلى الشمال وبعد أشهر قليلة اعترفت الصين، وكذلك الاتحاد السوفييتي، بالحكومة الفيتنامية.

وفي شباط 1951 دعا القادة في فيتنام إلى مؤتمر ثوري لتأسيس حزب العمل الفيتنامي، وكان برنامجه تحقيق الاستقلال وتوحيد الشعب والقضاء على النظام الاستعماري ومحو البقايا الإقطاعية وشبه الإقطاعية وإعطاء الأرض للفلاحين وتطوير الديمقراطية الشعبية كأساس للاشتراكية.

وأخيراً هزم الفرنسيون في إحدى أكبر المعارك ضد الاستعمار في تاريخ البشرية في ديان بيان فو، القلعة المحصنة بقوة للجيش الفرنسي في شمال غرب فيتنام وكانت تعد منيعة. فبعد 55 يوماً وليلة من القتال المتواصل، دمر الجيش الفيتنامي كلياً معسكر ديان بيان فو في 7 أيار 1954. وبعد إجبارها على رفع الراية البيضاء استسلمت القيادة الفرنسية بكاملها إلى جانب آكثر من 11 ألف جندي.

وكانت آثار هذا الانتصار ملموسة حول العالم. فقد ألهم تطوير حركة التحرير الجزائرية التي عانت أيضاً الحكم الاستعماري الفرنسي، وبعد سنوات قليلة انتشرت حركات التحرر عبر إفريقيا. وفي عام 1956 بدأت حركة 26 تموز حرب أنصار في كوبا.

بدأ التدخل الأمريكي في فيتنام قبل وقت طويل من الهزيمة الفرنسية، فقد كانت واشنطن ووول ستريت تبحثان عن توسيع إمبراطوريتهما في آسيا، حتى وهما تقاتلان لوقف الثورة الكورية.

في عام ،1968 وبعد هجوم تيت، اضطرت الولايات المتحدة أخيراً إلى الموافقة على بدء مفاوضات لإنهاء الحرب. ثم وقعت اتفاقيات باريس للسلام في 17 كانون الثاني 1973.

اضطر نيكسون والجنرالات الأمريكيون إلى إعلان (فتنمة) الحرب، أي سحب القوات الأمريكية، ولكنهم صعَّدوا تسليح وتدريب القوات الدمية، وشنوا هجمات مكثفة على المناطق المحررة في الجنوب. وبات واضحاً أنه ينبغي إطلاق هجوم جديد لمواجهة هذه الهجمات والانتهاكات السافرة لاتفاقيات السلام لعام 1973.

وكما فعل الفيتناميون في التحضير المكثف لحصارديان بيان فو ولهجوم تيت استعدوا لشن هجوم ربيع 1975 وفي أقل من شهرين انهار نظام سايغون وتم تحرير الجنوب كله في 30 نيسان. وبعد وقت قصيراً أطلق على سايغون اسم هو شي منه.

لم يعش هو شي منه ليرى النصر النهائي في عام 1975. فقد توفي في عام 1969 ولكنه كان واثقاً من النتيجة النهائية، ويظهر ذلك في وصيته الأخيرة التي كتبها في أيار 1969.

العدد 1107 - 22/5/2024