الرابح والخاسر الأكبر من «الربيع العربي»

من أهم قواعد علم الإجرام القاعدة التي تقول: (حتى تصل إلى الجاني في أي جريمة … فتّش عن المستفيد). فمن هم المستفيدون ومن هم الخاسرون من موجة (الربيع العربي) التي هبت علينا؟ وهل خدم هذا الربيع شعوب المنطقة؟

نستطيع القول إن الخاسر الأكبر من هذا الربيع  كان الإنسان الذي يعيش على هذه الأرض الطيبة، والذي استُعمل وسيلة لتحقيق غاية سياسية، وضُحّي به خلافاً لإرادته (باستغلال مصيبته أو بتضليله أو بالتعتيم على مشاكله وهمومه أو بانتهاك حرمة جسده)، بذريعة الثورة وحمايتها، أو العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، أو المحافظة على السلم الأهلي في المجتمع، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى عدم احترام المواطنين للنظام العام في المجتمع مما سيؤدي بطبيعة الحال إلى تزايد حدّة العنف السياسي في مجتمعاتنا، وتزايد الرغبة في الانتقام من الدولة الجانية، والساسة الجناة، وأدواتهم المنفّذة على الأرض. مما سيُدخِل المجتمع في دوامة من سفك الدماء والعنف والعنف المضاد، تنتهي بتعميق الشرخ بين أفراده مما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تفتيته.

أما المرأة، نصف المجتمع، فقد باتت أوضاعها أسوأ مما كانت عليه (في ظل الأنظمة القمعية والدكتاتورية السابقة)، على الرغم من مشاركتها القوية في الاحتجاجات والمظاهرات لقلب (أنظمة الحكم). وقد دفعت النساء الثمن الأكبر، من ناحية الإقصاء والتهميّش عن الحياة العامة، والقتل والترميل، وفي بعض الأحيان تعرضت للاغتصاب والعنف الجسدي، وعانت تراجع مستوى الحريات الممنوحة لها. وتراجعت مكانتها وأوضاعها، وباتت في واقع اجتماعي وسياسي مضطرب كانت هي ضحيته الأولى. فقد استطاع (الربيع العربي) أن يُحدث تغييرات سياسية في مجتمعاتنا، كما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن. أما عن التغيير الاجتماعي فيما يخص واقع المرأة فقد كان كحلول فصل الخريف الذي ينذر بشتاءٍ قارص. فصعود تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة وتبوئها سدة الحكم وقيامها بتنفيذ برامجها الداعية إلى جلوس المرأة في البيت، وغيرها من الأفكار، بدأت تؤشر إلى تراجع دور المرأة في المجتمع وتهميشها وخسارتها لكل مكتسباتها التي خاضت نضالاً مريراً من أجل الحصول عليها.

لماذا طالبت هذه الشعوب بالتغيير؟ ومن دفعها للخروج إلى الساحات للمطالبة بإسقاط الأنظمة؟ وهل هناك من يريد أن تعيش شعوب هذه المنطقة إما في صيف حارق أو شتاء قارس؟

إن هذا الربيع العربي قسم أمة العرب إلى أديان ومذاهب، قبائل وعشائر، أهل حضر وسكان الأرياف والمدر. منهم من تحالف مع الغرب، ومنهم من ذهب إلى الشرق. قسم أُغرم بالتجربة التركية وقسم أُعجب بالقوة الإيرانية، وقسم يريد استنساخ الحضارة الخليجية، وهذه الدول رسمت سياسات وحددت مصير شعوب دول (الربيع العربي). وأصبحت هذه الدول توابع تدور في فلك قوى خارجية تنفذ سياساتها وتلبي رغباتها، وبدأت أنظمة الربيع تحاول أن تؤثر على أنظمة عربية أخرى، لبسط سياسات طائفية، والاستعانة بقوات دولية، لإسقاط الأنظمة التي لم يصلها (الربيع العربي)، والتي تشهد حراكاً شعبياً مدفوعاً من بعض القوى الكبرى، ودول إقليمية (شقيقة وصديقة).

 لا أحد ينكر أن هناك مظالم وحقوقاً تطالب بها هذه الشعوب، وهذه الحقوق مشروعة. لكن آمال وأحلام الإنسان سرقتها أحزاب وتيّارات وشخصيات، عميلة للخارج وتنفذ سياسات طائفية ومذهبية، الأمر الذي يجب أن يجابه بقوة وحزم. فعلى أرض الواقع لم نعد نرى سوى الدمار والسرقة والبطالة والاستبداد باسم الدين. وبدأ بريق الأمل في عيون الشيب والشباب يخفت شيئاً فشيئاً، بدل أن يكون ربيعاً مزهراً يمتلئ بزهور المحبة والعطاء، يمنح الشعوب حريتها وكرامتها وعزتها ويحفظ جهود الذين ناضلوا واستشهدوا في سبيل الدفاع عن وحدة الوطن والأمة.

ومما سبق نستطيع القول إن المستفيد الأول والرابح الأوحد من كل ما يحدث في منطقتنا هو إسرائيل، التي، وفي حمى الطائفية والمذهبية التي تجتاح منطقتنا، بدأت تعمل على مشروع الدولة اليهودية والتمهيد لطرد الفلسطينيين منها وإلحاقهم بإحدى الدويلات الطائفية التي يُخطط لإنشائها في المنطقة. وهذا المشروع مدعوم خليجياً في إطار التحالف بين الطرفين، تضمن واشنطن بموجبه استمرار جلوس العائلات الحاكمة على عروش الإمارات النفطية، مقابل تطبيع هذه الإمارات شبه الكامل مع إسرائيل، وتنفيذ سياسات التحالف الأمريكي الصهيوني في المنطقة.

قيل: القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، لتقرأ دمشق وبغداد. وعندما نرى تراجع فحوى الكتابات المصرية وتدني مستوى القراءات الدمشقية والبغدادية، لتبقى بيروت تطبع بما شاءت أهواء طيور الظلام وأرباب المال وشياطين السياسة، نستطيع القول: إن الخاسر الأكبر في هذا الربيع هو المواطن الذي قُدِّم ضحية على مذبح شهوات الكمبرادورية العالمية ومطامعها، التي لبست ثياب الطائفة والمذهب، في منطقتنا.

العدد 1105 - 01/5/2024