تونس… والحصاد المرّ

إنّ الحديث عن السَّلفيّة منشَأً وفكراً ومُمارسةً، يقتضي دراسةً مُوسَّعةً لا يتَّسع لها صدرُ المقالة الصّحفيّة. لِذا، سأَكتفي هنا بالإِشارة إلى أَنّ المستفيدين ممّا عُرف بالإِسلام السِّياسي لايُشْهرون سلاحَ تطبيق الشَّريعة والجهاد في وجه الغاصبِ المُحتلّ، ولا الحاكم المُستبدّ. بل يًشهرونه في سبيل تكفير الآخر وإِقصائِه، واضطهاده ثقافيّاً واجتماعيّاً وأَخلاقيّاً، وفي سبيل إِنعاشِ التّقاليد البالية. ولعلّ تونس تبقى أحدَ الأَمثلة البيِّنة في إِبراز هذه الظّاهرة الخطيرة. الرّبيعُ العربيُّ الذي سطعَتْ شمسُه الأولى على ربوع تونس الخضراء، وكان بدايةً للرّبيع العربيّ في أقطار أُخرى، لم يبقَ ربيعاً، بل سُرق محتواه وشُوِّه معناه الأساسيّ. إذ استطاعَ حزبُ النّهضة، وبشكل اختلاسيّ أَن يسيطر على البلاد، مُستفيداً من أَجواء الحِراك الثّوريِّ والزّخم الجماهيريِّ العفويِّ المرافق. لم يكن هذا الحزبُ إلاّ انعكاساً لِغزوٍ مذهبيٍّ وهّابيّ جرى التّحضيرُ له وفق أَجنداتٍ عربيّة إسلاميّة وأخرى غربيّة. ولم يُقدِّرِ العلمانيّون في تونسَ على تعدُّد مشاربِهم خطورةَ تحقيق هذا الاختلاس، ومن ثمّ القفز على الكراسي السّياسيّة، تحتَ ستار شعارٍ مُخادعٍ هو (الصّحوةُ الإسلاميّة). تنفّسَ التّونسيّون الصّعداءَ بعد رحيل بن علي. لكنّهم أَخذوا يشعرون تدريجيّاً بالقلق والخوف بسبب الاضطرابات الاجتماعيّة التي راحت تجرُّ الثّورةَ والرّبيعَ المنشود إلى حالاتٍ من الفوضى والتّجاذُباتِ السّياسيّة وبروز سلطان أُمراءِ الإسلام السّياسيّ. تجلَّتْ مظاهرُ هذه الحالات بأَشكالٍ كثيرةٍ من التوتُّر السّياسي وارتفاع نِسَب البطالة وتراجُع الاستثمارات الصّناعية والسّياحيّة. الأمرُ الذي أَدّى إلى انهيارٍ للأَوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وسيطرة المحسوبيّة والفلَتان الأَمنيّ، وتعدُّد طرائق الفساد الاجتماعيّ والاقتصاديّ، ممّا جرّ البلادَ إلى حالة هشّةٍ جدّاً منَ التّدهور في كلّ النّواحي. وبرزَتْ مظاهرُ مُؤْسفةٌ من الممارسات الرَّعناء، مثل هدم وحرق محلاّتٍ جريمتُها أَنّها تبيع أشرطةَ (سي دي)، أَو مطاعم تُقدِّم المشروبات بترخيص قانونيّ، أو محلاّت تبيع لوحات فنّيّة. يُضافُ إلى ذلك أنّ ارتداءَ النِّقابِ أخذَ يُسيطرُ على عالَم المرأَة التّونسيّة ويُقصيها عن مُمارسَة دورِها الثّقافيِّ والاجتماعيِّ، وراحَ الرّجالُ يُطلِقون لِحاهُم ويرتدونَ أَلبسةً على الطِّرازِ الأَفَغانيِّ مُقلِّدين رجالَ كهوفِ تورا بورا وطالبان. حكومة حزب النّهضة، لم تفعلْ شيئاً لِحماية التُّراث والتّقاليد والأَزياءِ التّونسيّة المُميَّزة، بل ساهمت في دعم الاتّجاه الظّلاميّ السّلفيّ الذي ينطوي على تشويهٍ فظٍّ لكلِّ معالم الحياة التّونسيّة الحضاريّة والعلميّة.

لقد حذَّرتْ وزارةُ الثّقافة مِنْ أَنّ تواتُر الاعتداء على التّظاهُرات الثّقافيّة في البلاد يُنذِرُ باحتقانٍ مذهبيٍّ غريبٍ جدّاً عن المجتمع التونسيِّ المعروف بوسطيَّتِه واعتدالِه. ورأت أنّ هذا المُنْزلَق الخطير لا يُمثِّل اعتداءً على حرّية التّعبير والإبداع فحسب، إنّما هو تشنُّجٌ مذهبيٌّ وإلْغاءٌ للحياةِ بشكلِها المُتنوِّر والمُتقدِّم. وأهابتْ بالمجتمع التّونسيِّ التّصدّي لِمثلِ هذه الظّواهر المُتطرِّفة.

حذَّرَ الشّيخ عبدُ الفتّاح مورو، وعددٌ من الأَئِمة المتنوِّرين، مِنْ تفشّي فِتنةٍ عارمةٍ بِسببِ قيام دُعاةٍ سعوديّين بتنظيم دوراتٍ لِنشْرِ الفكر الوهّابيّ المُتشدّدِ في تونسَ التي لا تعرفُ التَّشدُّدَ سابقاً، وتعتمدُ في أَدائِها الدّينيّ أُسلوبَ المذهب المالكيّ البعيد عن التّطرُّف. وأَوضحَ الشّيخ مورو كيف أنّ الدُّعاةَ السّعوديّين ينظِّمون في تونسَ دوراتٍ تكوينيّةً مُغلقةً، ويدفعون للشّبابِ الذين يُتابعونَها مُقابلاً ماديّاً مُغرِياً لِجذْبِهم نحو التَّطرُّف والتَّشدُّد الوهّابيّ. فقدصرَّح مورو قائِلاً: (هذا أَمرٌ خطيرٌ جدّاً لا نرضاهُ ولا تقبلُ به العقولُ المنفتحة). كما صرَّح كمال السّاحري، الباحثُ في الحضارة العربيّة والمُتخصِّص في شؤون الإسلام السّياسي، بقولِه: (نحن نعيشُ بداية فتنةٍ حقيقيّة.. أنْ يكون للوهّابيّة موْطِئ قدمٍ في تونس. أَمْرٌ ما فتِئَ يتعاظمُ بفعلِ البترودولار، والأَئِمّةِ المُرسَلين مِن دُول الخليج. ثمّة أَطرافٌ خليجيّةٌ مثل السّعوديّة وقطر، تُموِّل عمليَّةَ فتْنةٍ طائِفيّة في تونسَ لِترمي بِها في أَتون صِراع المذاهب. وحقيقةُ الأَمر أَنّ المذهبَ الوهّابيَّ هو مِن أَشدّ المذاهب انغلاقاً وابتعاداً عن العقل، لأَنّه أَصبحَ إيديولوجيّةً مُغلَقةً لا تقبلُ التّطوُّرَ والاجتهادَ والانفتاح).

مارس حزبُ النّهضة في كلِّ أَرجاء تونس مُتسلِّحاً بالفكرِ الوهّابيّ، سياسةً إِقصائيّةً إرهابيّة، كمنعِ الفِرَق الموسيقيّة والمسرحيّة مِنْ أَداءِ نشاطِها. والأمثلةُ كثيرة، فقد منعَ السّلفيّون عرضاً مسرحيّاً للمُمثِّل الكوميديّ لطفي العبدلي بذريعة هشّة واهية هي استهزاؤُه بالدّين. وقد حذَّرتْ الرّابطةُ التونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان، مِن أَنّ المجموعاتِ السَّلفيّةَ العنيفةَ والخارجةَ على القانون والفالتةَ من العقاب، تصولُ وتجولُ ناشرةً الرُّعبَ، مُضيِّقةً الخِناقَ ماديّاً ومعنويّاً على المثقّفين والمُبدعين والنّساءِ والنّقابيّين ومُناضِلي حقوقِ الإنسان، كما تعتدي على المؤَسَّساتِ الأكاديميّة والتَّربويّة والنّقابيّة. حقيقةُ الأمر أَنّ المُتشدِّدين الإسلاميّين باتوا يهدِّدون العالم العربيَّ بأَكمله، وقد أصبح التّوانسة نقابيّين ومفكّرين ومبدعين، يخشَوْن انتقال الجماعات الإرهابيّة من أفغانستان وباكستان والشّيشان والعراق والمغرب إلى بلادهم. وأصبح هذا الخطرُ منظوراً بشكلٍ جليٍّ. أصبحت العناصرُ الإرهابيّة المُرتبطةُ بالقاعدة تحت مُسمَّياتٍ مُتعدِّدَة، تصولُ وتجولُ في أَرجاءِ تونس وشمال إفريقيا مُمارسةً نشاطاً مُرعباً لا حدودَ له. ولعلَّ اغتيالَ المفكّر والمناضل اليساريّ البارز شكري بلعيد، يُعدُّ تعبيراً مباشراً عن وجود هذا القطيع الإرهابيّ الخطير، المُنفلت من عقال المحاسبة والقانون.

الخطرُ الكبير أن تستطيع هذه المجموعات الإرهابيّة، مُتسلِّحةً بالغطاءِ الدَّوليّ والعربيّ، تحويل تونس من بلدٍ طَموحٍ مُنفتحٍ مُسالِمٍ ينشُدُ التّقدُّمَ والتطوُّر، ويغذُّ الخُطا نحو العلمانيّة في الحياة والعلاقات، إلى بلد مُنعزلٍ مُتخلِّفٍ يعيثُ فيه الإرهابُ فساداً، فيحوِّلُه إلى بؤْرةٍ إرهابيّة تُغذِّي الإرهاب والتَّخلُّفَ في شمال إفريقيا والوطن العربيّ.

ترى… هلْ تستطيع يدُ الإرهاب الجانية أن تُحوِّلَ بلادَ السِّياحة والجمال والهدوء بكلِّ مُقوِّماتِها واستعدادِها للتَّطوُّر والتّقدُّم، بلاد المؤَسَّسات النّقابيّة والأَحزاب اليساريّة، بلاد المُبدعين والمُفكِّرين العلمانيّين. أن تُحوِّلَها إلى نوع مِنْ مجاهل كهوف تورا بورا، يتجوَّلُ فيها الظّلامُ الفكريّ والعباءات المُهترِئَة والعمائِمُ المُزيّفة..!

الإجابةُ عن هذا السُّؤال رهنٌ بالاتّحاد التّونسيّ للشُّغل، والنّقابات العمّاليّة، والأحزاب اليساريّة في تونس، وكلُّ المُبدعين والطّلاب والمفكِّرين.. والعالمُ كلُّه ينتظرُ الجواب.

العدد 1104 - 24/4/2024