في ظل الرأسمالية… هل تصمد الحضارة؟

ثمّة (رأسمالية)، وثمة (الرأسمالية القائمة فعلاً)، يُستعمل مصطلح (الرأسمالية) على نحو شائع للإشارة إلى النظام الاقتصادي الأمريكي، مع تدخّل لافت من الدولة يتراوح بين دعم الابتكار الإبداعي وتغطية الحكومة المطلقة للمصارف، مهما كانت مخاطرها كبيرة.

النظام محتكَر للغاية، ويحدّ من اعتماده على السوق بنحو متزايد: أورد الكاتب (روبرت ماكشيسني) في كتابه الجديد (ديدجتل ديسكونكت) أنّه في السنوات العشرين الماضية، ارتفعت حصة أكبر مئتي شركة من الأرباح ارتفاعاً ملحوظاً.

اليوم، يُستخدم مصطلح (الرأسمالية) للإشارة إلى الأنظمة التي يغيب فيها الرأسماليون، أو الشركات التي تتّبع خططاً توسعية والمملوكة للعمّال.

وقد يستعمل البعض مصطلح (الرأسمالية) للإشارة إلى الديمقراطية الصناعية التي دافع عنها (جون ديوي)، الفيلسوف الأمريكي الرائد في علم الاجتماع ، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

ودعا ديوي العمّال ليكونوا (أسياد مصيرهم الصناعي)، كما دعا لأن تخضع المؤسّسات كافة لرقابة عامة، وبضمن ذلك وسائل الإنتاج، والتبادل، والشهرة، والنقل، والتواصل. فبحسب ديوي، من دون هذه الشروط، ستبقى السياسة (عبئاً على المجتمع بسبب الشركات الكبيرة). وفي السنوات الأخيرة، بقيت الديمقراطية المبتورة التي أدانها ديوي في حالة يرثى لها. فاليوم، ترتكز رقابة الحكومة بشكل ضيق على رأس سلّم الدخل، فيما حُرمت الأكثرية الكبرى (أدناه) عمليّاً حقها. النظام السياسي الاقتصادي الراهن هو شكل من أشكال (البلوتوقراطية) التي تختلف كليّاً عن الديمقراطية، إذا قصدنا بهذا المفهوم الترتيبات السياسية، حيث تتأثر السياسة إلى حدّ بعيد بالإرادة العامة. جرت مناقشات جادة على مرّ السنين حول ما إذا كانت الرأسمالية تتوافق مع الديمقراطية. ولكن إذا أبقينا على ديمقراطية الرأسمالية القائمة فعلاً، فسيكون الجواب حتماً: هما تتعارضان تعارضاً جذرياً. يبدو لي أنّه من غير المرجّح أن تستمرّ الحضارة في ظلّ الديمقراطية الرأسمالية القائمة فعلاً، والديمقراطية المخفّفة بشدّة التي تأتي معها. ولكن أيمكن لديمقراطية فاعلة أن تُحدث فرقاً؟

فلنركز انتباهنا في الوقت الراهن على المشكلة الحالية الدقيقة التي تواجهها الحضارة، ألا وهي الكارثة البيئيّة. وفي هذا الصدد، تختلف السياسات والمواقف العامّة على نحو حاد، كما هو الحال غالباً في ظلّ الديمقراطية الرأسمالية القائمة فعلاً. وتبحث مقالات عدّة في العدد الحالي من مجلة (ديدالوس)، التي تصدرها أكاديمية الفنون والعلوم الأمريكية، في طبيعة الفجوة.

وأظهرت الباحثة (كيلي جالاجر سيمز) أنّ (مئة وتسع دول انتهجت بعض أنواع السياسات بشأن الطاقة المتجدّدة، فيما وضعت مئة وثماني عشرة دولة أهدافاً حول الطاقة المتجدّدة. في المقابل، لم تتّخذ الولايات المتحدة أي سياسات متماسكة وثابتة على المستوى الوطني لتعزيز استخدام الطاقة المتجدّدة).

ليس الرأي العام الذي يُبعد السياسة الأمريكية عن الاتجاه الدولي، بل على العكس تماماً، فالرأي العام أقرب من المعيار العالمي أكثر ممّا تعكسه سياسات الحكومة الأمريكية، وهو أكثر دعماً للإجراءات اللازمة لمواجهة الكارثة البيئيّة المحتملة والمتوقعة بإجماع علمي شامل – وهي كارثة بيئيّة وشيكة ستؤثر دون شك على حياة أحفادنا.

وجاء في تقرير (جون كروسنك) و(بوماكينيس) في مجلّة (ديدالوس)، (أنّ الأكثريات الساحقة دعمت خطوات الحكومة الفيدرالية بغية الحدّ من كمية انبعاث غازات الدفيئة الناتجة عن إنتاج الكهرباء في المنشآت. ففي عام ،2006 دعم 86 في المئة من المُستطلعين الطلب من المنشآت أو تشجيعها عبر إعفاءات ضريبية، على تقليص كمية غازات الدفيئة التي تبعثها. فضلاً عن ذلك، دعم 87 في المئة في ذلك العام الإعفاءات الضريبية للمنشآت التي تنتج المزيد من الكهرباء بواسطة المياه أو الرياح أو أشعة الشمس. واستمرّت هذه الأكثريات بين عامَي 2006 و،2010 وتقلّصت إلى حدٍّ ما بعد ذلك. ويعدُّ واقع تأثير العلم على الشعب أمراً مقلقاً للغاية، لأولئك الذين يهيمنون على الاقتصاد وعلى سياسة البلد.

أما خير مثال على قلقهم الحالي، فهو (وثيقة تحسين المعرفة البيئية)، التي اقترحها مجلس التبادل التشريعي الأمريكي على المجالس التشريعية للدولة، وهو لوبي تموّله الشركات، يصمّم التشريعات لتلبية حاجات قطاع الشركات والثروة القصوى.

تنصّ وثيقة مجلس التبادل التشريعي الأمريكي على (تعليم متوازن) لعلم المناخ في الصفوف الابتدائية والثانوية. (التعليم المتوازن) هو عبارة عن رمز يشير إلى تعليم استنكار التغير المناخي وإلى (توازن) علم تعميم المناخ. وهو مماثل (للتعليم المتوازن)، الذي ينادي به المدافعون عن علم المخلوقات لتمكين تعليم (علم الخلق) في المدارس الرسمية. 76 في المئة وقد أُدخلت تشريعات في ولايات عدّة استناداً إلى نماذج مجلس التبادل التشريعي الأمريكي. ومن المؤكّد أنّ كل ذلك يندرج في بيان رسمي حول تعليم التفكير النقدي- ولا شكّ أنها فكرة سديدة، ولكن من السهل التفكير في أمثلة أفضل بكثير من قضية تهدّد بقاءنا اختيرت نظراً لأهميّتها في ما يتعلّق بأرباح الشركات.

أما تقارير وسائل الإعلام، فتطرح على نحوٍ مشترك جدلاً بين طرفَين بشأن تغير المناخ. طرفٌ يتألّف من الأكثرية الساحقة من العلماء وأكبر الأكاديميات الوطنية للعلوم في العالم، والمجلّات العلمية المهنية، واللجنة الحكومية البينية المعنية بتغير المناخ. وتوافق كل هذه الأطراف على أنّ الاحترار العالمي جار، وأنّ العنصر الإنساني يلعب دوراً كبيراً فيه، وأنّ الوضع خطير، وربما وخيم، وأنّه في وقتٍ قريب جداً، ربما خلال عقود، قد يصل العالم إلى نقطة تحوّل تتفاقم فيها المشكلة بحدّة لدرجة أنّه سيتعذّر العودة عنها، مخلّفةً آثاراً اقتصادية واجتماعية خطيرة. إشارة إلى أنّه من النادر أن نجد مثل هذا الإجماع على القضايا العلمية المعقّدة. أمّا الطرف الآخر، فيتألّف من مشكّكين، ومن ضمنهم بعض العلماء المحترمين الحذرين، إذ يبقى بنظرهم الكثير مجهولاً – ما يعني أنّ الأمور قد لا تكون سيّئة كما كان يُعتقد، أو أنّها قد تكون أسوأ.

لم تُذكر مجموعة أكبر بكثير من المشكّكين في النقاش: يرى علماء المناخ المرموقون أنّ تقارير اللجنة الدولية لتغير المناخ المنتظمة محافظة أكثر من اللازم. ولسوء الحظ، لقد أُثبت مراراً وتكراراً أنّ هؤلاء العلماء على حق.

بدا لحملة نشر الأكاذيب تأثير على الرأي العام الأمريكي، وهو أكثر تشكيكاً من المعيار العالمي، إلّا أنّ التأثير ليس كافياً لإرضاء الأسياد. من المفترض أن يكون هذا هو السبب الذي يدفع قطاع الشركات في العالم إلى شنّ هجوم على النظام التعليمي في محاولة لتغيير نزعة الرأي العام الخطيرة إلى الانتباه إلى استنتاجات الأبحاث العلمية.

مهم جداً، في ظلّ نظام الديمقراطية الرأسمالية القائمة فعلاً، أن نتحوّل إلى الأمّة الغبية، التي لا يضلّلها العلم والعقلانية لصالح المكاسب القصيرة الأمد لأسياد الاقتصاد والنظام السياسي، ولا مشكلة في العواقب. تتجذّر هذه الالتزامات في مذاهب السوق الأصولية المبشّر بها في إطار الديمقراطية الرأسمالية القائمة فعلاً، على الرغم من أنّه يُنظر إليها بطريقة انتقائية للغاية، وذلك بغية الحفاظ على دولة قوية تخدم الثروة والسلطة.

غير أنّ الكارثة البيئية أشدّ خطورة: فالتأثيرات الخارجية التي يتمّ تجاهلها هي مصير الأجناس، ولا يمكن اللجوء إلى أي مكان لطلب النجدة.

في المستقبل، سيعيد المؤرّخون (إن بقي مؤرّخون) النظر إلى المشهد الغريب الذي  تجسّد في أوائل القرن الحادي والعشرين. ولأوّل مرّة في تاريخ البشرية، سيواجه البشر احتمال وقوع مصيبة خطيرة نتيجة لأفعالهم – أفعالٌ تقضي على آمالنا في العيش اللائق.

 

عن مركز الدراسات وأبحاث الماركسية واليسار

العدد 1105 - 01/5/2024