ثقافة الحوار وعلم التفاوض السياسي

كثر في السنوات الأخيرة استعمال تعبير (الحوار الوطني) في بلدان الوطن العربي عموماً. وفي سورية نبَّه الشيوعيون إلى ضرورة  الحوار الوطني منذ منتصف التسعينيات، وأكدوا أهميته في كل المحطات السياسية والحزبية في العقد المنصرم، ولذلك ليس غريباً أنهم أول من دعا إلى الحوار منذ اندلاع الأزمة في آذار ،2011 بل وقبيل ذلك أثناء الإعداد للمؤتمر الحادي عشر للحزب في نهايات 2010.

و الحاجة إلى الحوار أصلاً تتأتى من ضرورته لتجنب تفاقم الصراعات من ناحية، وللخوض في خطط المستقبل التنموية من ناحية أخرى. أما اليوم فإنها الطريق الآمن الوحيد للوصول إلى حل سياسي أو تسوية سياسية تنهي العنف الدائر والمتصاعد في البلاد، مع تعاظم نتائجه الكارثية على كل المستويات.

وقد كثر تداول تعبيرَيْ (الحوار) و(التفاوض) في السنة المنصرمة، وقُدِّما إعلامياً بأفهامٍ مختلفة. لذلك لا بد من ضبط المفهومَيْن ضبطاً علمياً، وهذا ليس بحال من الأحوال ترفاً وإنما ضرورة يتطلبها النجاح، في إزالة اللبس، وفي تقليل سوء الفهم. فوضوح الرؤية أمر لا غنى عنه. والإدارة العلمية لهذه العملية المعقدة والطويلة هي أساس من الأسس الهامة في نجاحها، والانطلاق من كل مرحلة فيها إلى آفاق جديدة في ردم الخنادق المزدادة عمقاً بين الأطراف المتصارعة وبين زوايا النظر التي تبنى عليها المواقف في تحليل الأزمة، من أسبابها إلى نتائجها، ومن جوهرها إلى الأشكال التي تبدت عبرها، من أولية كل من العوامل المؤثرة فيها وهي كثيرة ومتداخلة ومعقدة التركيب إلى عدم الاعتراف بأحدها أو التقليل من شأن بعضها.

ولكي يصبح (الحوار الوطني) نقطة تحول وانطلاق إلى أفق جديد في الواقع السياسي والاجتماعي وفي جميع الميادين، لا بد أن نحرص على الإدارة العلمية والدقيقة لفعاليات هذا الحوار وأنشطته، ونحو هذه الغاية لا بد أن نفرق أولاً بين مفهومَيْ (الحوار) و(عمليات التفاوض الجمعي).

فمئات من المقالات والمداخلات طرح كتابها ما يرونه مهماً بشأن الحوار، وتشكل هذه الجهود ملفاً مهماً لا بد أن نستخدمه الاستخدام الأمثل، ونعدّه بنكاً أساسياً للبيانات يكون في خدمة الخطوة التالية، تنطلق من الحوارات والجهود التي بذلت في المرحلة المنصرمة من الأزمة، وهذه الخطوة التالية هي عملية التفاوض الجمعي. والجمعي هنا بمعنى التراكمي لمجموع الآراء والجهود.

و يتضمن هذا الفهم أن ما شهدته ساحة التفاعلات في الأزمة السورية وحولها – فيما يخص الحوار – مع الأطراف الرافضة له أو المشترطة عليه أو (المنتظرة)، وإلى الآن، يمثل حالة (التساوم) الذي عادة ما يسبق التفاوض، والذي يمثل استكشافاً، لأجندات الحوار وجدول أعماله وأهدافه، لدى الأطراف والتيارات المختلفة على الساحة. وقد ساعدت في هذا التساوم قوى ودول وشخصيات عربية وإقليمية ودولية، كان أكثرها علنية الجهود الروسية والإيرانية، وجهود الجامعة العربية، ناهيك بالجهود السرية من أطراف كثيرة وبمختلف الاتجاهات والأهداف.

وفي إطار ما سبق، أؤكد أن تعبير (الحوار الوطني) الذي يتم الحديث عنه، غالباً ما يصاحبه نقطة التباس رئيسية تتمثل في عدم التفريق بين كلمة الحوار أو تعبير (الحوار الوطني) وتعبير (التفاوض الجمعي). فكلمة الحوار ذات مدلول واسع جداً، وإذا ما استخدمناها، وطالبنا بإجراء حوارات (!)، فليس لنا أن نأخذ على البعض – كما حدث في كل الملتقيات التي عقدت (في المحافظات واللقاءات المركزية) – أي طرح لهم في هذا الصدد.

و قد ساهم الإعلام بقصد أو دون قصد في هذا الالتباس. فالحوار وبداياته تتطلب نوعاً من خضخضة الأفكار والتعامل مع أوضاع قائمة، وتطلعات يسعى كل من الأطراف المتصارعة لتحقيقها، وهذا الأمر ضروري حتى تتبلور (أجندة المجتمع التفاوضية).

و الحوارات التي جرت من هذا المنطلق تأتي في مرحلة ما قبل التفاوض، وتحقق مساراً هاماً يمثل حالة من التوافق على ثوابت وطنية بين كل القوى التي دعت أو طالبت أو وافقت على المشاركة في هذه الحوارات، أي تشكل فريقاً سياسياً تجمعه (ثوابت وطنية) متوافق عليها، كما تمثل عنصراً من عناصر التفاوض في وضع أجندة (جدول أعمال) التفاوض، وبالتالي في مساراته المتشعبة والمتجادلة ديالكتيكياً، مع فريق آخر لم يتشكل بعد فعلياً. والأهم الآن أن تتوضح ملامحه في التوصل إلى الثوابت الوطنية التي يفترض أن يتضمنها الميثاق الوطني، الذي سينتجه مؤتمر الحوار الوطني – إذا سارت الأمور وفق البرنامج السياسي الذي أعلنته الحكومة – والذي سيطرح للاستفتاء الشعبي.

فالحوار التفاوضي الجمعي هو التعبير الأكثر تحديداً ودقة للمهمة الوطنية المطلوب إنجازها بالفعل الآن. وهذا يعني وجود سياقات مكانية وزمانية وأطراف ممثلة للمجتمع وتياراته المعبرة عنه، وموضوعات وإجراءات محددة، ويكون له ناتج ملموس وملزم يتم التوصل إليه من خلال عمليات الحوار التفاوضي.

والتفاوض منذ الثمانينيات يتحول من كونه فناً إلى علم بدأت تحكمه قواعد تطورت مع تطور العلوم السياسية والاجتماعية.

وهو تعريفاً: العلم الذي يهدف إلى التعرف على أفضل وسائل تكوين الأرضيات المشتركة والتفاهم الفعال بين بني البشر، رغم اختلافاتهم وثقافاتهم وعقائدهم. إنه العلم الذي نحاول به تجنب تفجر الصراعات والجدل العقيم الذي يزهق الأرواح ويستنفد الطاقات. و لكنه بحاجة إلى ثقافة أساسية هي ثقافة التفاوض، وقبلها ثقافة الحوار وقبول الآخر، وإلى قناعة أطراف الصراع بضرورة الحوار، ثم التفاوض، والالتزام بموجباته، وصولاً إلى الحوار الوطني. وهذا يحتاج إلى تفاعل إيجابي أساسه دخول عملية التفاوض، بعد التعرف على اهتمامات الطرف الآخر الأساسية، لكي تؤخذ بالحسبان للوصول إلى صيغة يكسب منها الجميع بصورة واقعية.

وبتبني هذه المنهجية على الجميع تجنُّبُ الخيارات الصفرية، اللاتفاوضية، في حقيقتها (بالمعنى الإيجابي المفهوم)، وهي التي تصل فيها عادة درجة الصراع إلى تبنّي منطق مفاده : لا بد أن أجعل الطرف الآخر يخسر كل شيء، وأن أكسب أنا كل شيء. وطبقاً لهذه الخيارات فإن المتحاورين (أو المتصارعين !) يؤمنون بأن إدارة الصراع السياسي والاجتماعي لا تحتمل حلولاً وسطاً – أي أن الأمر ينبغي أن يكون: إما رفضاً مطلقاً، أو قبولاً مطلقاً.. (إما قاتل أو مقتول). ويمثل قرار الدخول في مثل هذه الخيارات النقيض التام لأي محاولة إيجابية لإدارة الحوار التفاوضي اجتماعياً وسياسياً، والفوز فيها لا يتحقق إلا بتدمير الآخر وتشويهه. أي أنه بواسطتها تتحول خيارات الحوار إلى خيارات (الإرهاب)، ويرجع أمر تبني هذه الخيارات لا إلى عدم توفر المصالح والإرادة السياسية، أو إلى صفات أخلاقية معينة، كتوافر عامل العنف والشراسة وسوء النية، فقط، ولكنه يرجع أيضاً إلى افتقاد القدرة العملية والعلمية على فهم تعقيدات الحوار التفاوضي وطبيعته التي تستلزم تعرُّف تقنيات وكفاءات الحوار، وبضمنها وضع جدول الأعمال عبر التعرف على هواجس الجميع ورغباتهم وطموحاتهم، بما يحفظ الوطن والدولة.

و نفترض أنه إذا ما توافرت وشاعت ثقافة الحوار والخيارات التفاوضية الإيجابية بصفة عامة أدرك الجميع أن الناتج في النهاية وعلى المدى البعيد والقريب إيجابي لكل الأطراف. وهذا الدافع إلى الدعوة للحوار التي دعونا إليها منذ البداية، والدعوة لنتعاون على تأصيل أسس ثقافة الحوار ومنطلقاتها وآلياتها التي بادرنا إليها منذ سنوات. واليوم، وبعد انقضاء أشهر طويلة مخضبة بدماء السوريين، يتبين أكثر لمن استهان بالأزمة من كل الأطراف، أن ثقافة الحوار كانت تنقص الجميع، وأننا اليوم أمام استحقاق أكثر ضرورة، ويجب التعاطي معه بأكثر مسؤولية وديناميكية وعلمية. إنه الحوار التفاوضي وفق ثقافة التفاوض الإيجابية، المبنية على الأسس العامة التالية التي ينبغي تعرفها ما دمنا بصدد التعريف بفكرة (ثقافة التفاوض) :

1 – التركيز على حل المشاكل، وتجنب التعرض للأشخاص بأي نوع من التشويه، أي تحري الموضوعية وتجنب الشخصانية.

2 – تنمية حاسة الاستماع الجيد للآخرين، أي بلا افتراضات مسبقة ومع استيضاح أي غموض، وتستلزم استيعاب ما يقال وتخزينه في الذاكرة لاسترجاعه في الوقت المناسب في الحوار، وكذلك تتطلب مقاومة القابلية للاستهواء، أي قابلية تصديق أفكار الآخرين بتسرع دون برهان قوي.

3 – أصول إقامة الحجج، واستخدامها إيجابياً لصالح التفاوض، لا لصالح (هزيمة الخصم أساساً).

4 – تعرُّف وظائف (الصمت) في الحوار التفاوضي.

5 – تعرُّف الاستخدامات الإيجابية لعامل الوقت، ومعرفة من يوظفونه في غير صالح العملية التفاوضية.

6 – تجنُّب الأسلوب غير المباشر في الأمور التي تحتاج إلى توضيح دقيق، وتجنب الغموض، أو بالأحرى إدراك استخدامات ميكانيزمات الغموض على وجه الدقة.

7 – تجنب أساليب المغالطات، والدفاع عن الأوضاع الخاطئة، والاعتراف بالخطأ في حال الوقوع فيه.

8 – تجنب التقوقع داخل الذات، والخوف من المواجهة الإيجابية.

9 – انتهاج مبدأ (تحقيق الممكن) وتجنب السقوط في (الحب النظري للكمال) إلى الحد الذي يجعل المتحاور يترك فرصة تحقيق الأهداف العادية والممكنة.

10 – تجنب التفكير الأحادي، بمعنى النظر الدائم إلى أفكار جديدة والبحث عن بدائل لمنظومة الأفكار المتداولة، وهذا يجعل المتحاور منفتحاً دائماً على الجديد المفيد والإبداعي، ويجعله إيجابياً في التعاطي مع كل طرح.

11 – أهمية تحديد أوَّليات التفاوض، وتحديد أهمية ووزن كل نقطة، ثم تحديد أوَّليات التحدث بشأنها، وتصديرها على قائمة موضوعات النقاش. وهل نبدأ بالمشكلات الرئيسية أم الفرعية؟

12 – تجنب الوقوع في براثن التفكير التآمري، وتأطير الآخرين بجهالة ودون تأكد مطلوب، بل والتصرف بطريقة فاعلة تضرب التآمر عندما يوجد، وبهدوء ودون إحباط وشكوى ويأس.

13 – التكيف مع المستجدات التي تحدث أثناء العملية التفاوضية، أي تجنب الأجندة (الاستاتيكية) الثابتة خاصة في الأمور الفرعية.

14 – أهمية توثيق أحداث التفاوض في المجالات المختلفة ومقارنتها بالأهداف في بداية العملية.

و علينا أن نتذكر دائماً أن أمر الحوار والتفاوض من الأمور المستمرة مدى الحياة، وأننا نستطيع أن نتطور دائماً ونطور أساليبنا بعد التجارب المختلفة، وهذه خاصية يتحلى بها كل من ترسخت في عقليته (ثقافة التفاوض).

وما ذكرناه من أسس ما هو إلا بعض اللمحات التي تحتمل التعمق فيها والزيادة عليها، ولكن هذا العرض يريد أن يبين محتوى علم التفاوض وآلياته، كما يريد أن يميزه من مفردة (التفاوض) و(المفاوضات)، وكذلك من الحوار ومن (الحوار الوطني). مع ضرورة معرفة أن هذا العلم لم ينشأ أكاديمياً ودبلوماسياً لولا توصل القوى والمحاور الدولية في الثمانينيات إلى نتيجة مفادها أن إدارة الصراعات وفق الخيارات الصفرية يضر في النهاية بمصالح الجميع، وأن المكاسب التي يُتوصل إليها بالتفاوض هي أفضل بكثير لمستقبل الجميع.

فصحيح أن هذا العلم تأسس دولياً لإدارة الصراعات الدولية، لكنه مع تطوره كعلم، ومع تشابكه بعلوم اجتماعية وسياسية أخرى، بات يشمل كل أنواع التعاملات التي تحتاج إلى تكوين الأرضيات المشتركة في كل المجالات (السياسية والدبلوماسية والإدارية والتجارية..)، وهو كما رأينا مفهوم مختلف عن الحوار، من حيث التفاصيل الإجرائية وآليات العمل، لكنه كما أفهم فعالية مطلوبة باتجاه الحوار الوطني في مثل الحالة السورية. فهذا الأخير ممكن أكثر ومضمون أكثر بعد إجراء الحوار التفاوضي الجمعي وبأشكال مختلفة (من بينها المؤتمر الدولي وفق الاتفاق الروسي الأمريكي وتداعياته على آفاق الحوار) للوصول إلى أرضية مشتركة تمكن من الدخول في مرحلة الحوار الوطني الشامل بخطَّيْ تجاوز الصراع العنفي ووضع خطط تنمية المجتمع. فالتفاوض علم وفن، والحوار ثقافة وقبول بالآخر، والحوار الوطني فعالية (يجب أن تكون مستمرة) تعترف بأحقية الجميع في المشاركة ببناء دولة القانون والمؤسسات وفق ميثاق وطني جامع يعيد بناء الوحدة الوطنية.     

في النهاية، حوار أم تفاوض، ليس المهم التسميات، بل مضمون ما ينهي الأزمة التي يعيشها الشعب والوطن، وفق ميثاق وطني متوافق عليه، يعطي الثوابت الوطنية قوة ودعماً لتكون سورية الدولة الجديدة قادرة وفاعلة ومحصنة، على المستوى الوطني والاجتماعي الاقتصادي والديمقراطي.    

 

(*) المعلومات حول علم التفاوض من كتاب

( مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي و السياسي )

للدكتور حسن محمد وجيه

صادر في سلسلة كتب عالم المعرفة. 

العدد 1105 - 01/5/2024