الدور الإمبريالي في اغتيال الزعيم الثوري الكونغولي باتريس لومومبا

نشرت مجلة (لندن للكتب) حديثاً رسالة أعادت فتح النقاش حول من كان يقف وراء اغتيال الزعيم الثوري الكونغولي باتريس لومومبا.. وكان القائد الكاريزمي والشعبي في فترة 1958-1960 قد أسر قلوب وعقول أغلبية شعبه والقارة الإفريقية خلال النضال ضد الاستعمار البلجيكي.

كتب الرسالة عضو مجلس اللوردات البريطاني ديفيد ليا، في رد على عرض لكتاب كالدر والتون، عن تاريخ وكالة التجسس البريطانية إم إي 6 بعنوان (الإمبراطورية والأسرار: الاستخبارات البريطانية والحرب الباردة وشفق الإمبراطورية). يتساءل كتاب دالتون (هل ارتقت المؤامرات البريطانية لاغتيال لومومبا، يوماً إلى مستوى التنفيذ؟ في الوقت الحالي نحن لانعلم)!

يرد ليا: (أستطيع القول: إننا نعلم.. حدث أنني تناولت كوباً من الشاي مع دافني بارك، التي كانت القنصل والسكرتير الأول في ليوبولد فيل، الآن كينشاسا، من عام 1959 إلى ،1961 ما يعني عملياً أنها كانت رئيسة إم إي 6 هناك.

ذكرت الضجة التي أحاطت بخطف لومومبا وقتله، وذكّرتها بالنظرية القائلة: إن إم إي 6 قد تكون لها علاقة بذلك).

أجابت: (كانت لها علاقة، أنا نظمت ذلك).

يذكر ليا أن بارك آمنت، مثل العديدين في الغرب آنذاك، بأنه إذا لم يسيطر على الكونغو نظام موال للإمبريالية، فإن الثروات المعدنية في البلد ستكون متاحة للاتحاد السوفييتي. وُصف لومومبا بالشيوعي في ذلك الوقت، واستخدم الغرب دعاية كهذه لتسويغ الانقلاب ضده واغتياله الوحشي أخيراً.

قال ليار: إنه لا شيء آخر لديه لإثبات ادعاءات بارك.

بعد التقاعد من الدبلوماسية واستخبارات الحكومة البريطانية، عُينتْ بارك (نبيلاً بريطانياً لا يرث أبناؤه لقبه) كبارونة بارك مونموث. ولاحظ زملاؤها في مجلس اللوردات أنها الناطقة باسم الاستخبارات.

رفضت إم إي 6 التعليق على ادعاء ليا، وكان اغتيال لومومبا قد أثار احتجاجات في كل مكان من إفريقيا والعالم في عام 1961.

دور الولايات المتحدة في اغتيال لومومبا

لم تكن الإمبريالية البريطانية وحدها التي أرادت الإطاحة بلومومبا. تشير السياسة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت، وكذلك الإفراج اللاحق عن وثائق سرية سابقاً، إلى أن البيض الأبيض في ظل الرئيس دوايت أيزنهاور دبّر المؤامرة ضد الوطني الكونغولي.

وُثّق الدور الأمريكي في استماع اللجنة المختارة بشأن الاستخبارات في مجلس الشيوخ في عام 1975 برئاسة عضو مجلس الشيوخ عن ولاية إيداهو فرانك نشيرش.. تحدث المخبر السابق في  الأمن الوطني روبرت جونسون عن اجتماع رفيع المستوى ضم أيزنهاور وضباط استخبارات من المراتب العليا، وفيه تم التوصل إلى قرار باغتيال لومومبا. وفقاً لما تذكره جونسون: (في لحظة ما خلال النقاش، قال الرئيس إيزنهاور شيئاً، لم أعد أتذكر الكلمات، تلقيته كأمر باغتيال لومومبا.. لم يناقش ذلك أحد، وانتقل الاجتماع ببساطة إلى موضوع آخر). وأكد لورنس ديفلين، الذي عمل ضابطاً ميدانياً لدى وكالة الاستخبارات المركزية في الكونغو في عام ،1960 أيضاً دور إدارة أيزنهاور.

وأقر ديفلين في كتابه (رئيس المحطة، الكونغو) أنه تلقى تعليمات بتنفيذ الاغتيال من نائب رئيس الخطط في وكالة الاستخبارات المركزية ريتشارد بيسل. كتب ديفلين أن إحدى طرق الاغتيال التي جرى التفكير فيها كانت إضافة مادة كيميائية مميتة إلى معجون أسنان لومومبا.. يزعم ديفلين أنه لم ينفذ ذلك أبداً. كانت وكالة الاستخبارات المركزية ضالعة في العديد من عمليات زعزعة الاستقرار والانقلابات والاغتيالات في إفريقيا وأجزاء أخرى من العالم، وقد وثق ذلك جيداً جون ستوكويل في كتابه (البحث عن أعداء) في عام 1984. اعترف ديفلين بدعم انقلابيين عسكريين بقيادة موبوتوسيسي سيكو، الديكتاتور المدعوم أمريكياً في الكونغو في عامي 1960 و.1965. قال إن ذلك كان مسوغاً لأن موبوتو كان ديكتاتورياً معادياً للشيوعية، ويمكن أن يكون حصناً ضد النفوذ اليساري.

وثائق المؤامرات البريطانية

لتوضيح الحقائق وراء ادعاءات ليا وتساؤلات والتون، يجب أن تفرج بريطانيا عن وثائق إم إي 6 التي تشرح دورها في الكونغو في أعوام 1959 -1961. كتب برنارد بورتر في مجلة (لندن للكتب)، أن البيانات التي قدمها كل من ليا ووالتون تُعد (سبباً لفتح الأرشيف.. إن الذين اشتبهوا من بيننا دوماً بأن أشياء كهذه تجري كانت السلطات – أي المتآمرون أنفسهم- تشوه سمعتهم وتصفهم بأصحاب نظرية المؤامرة).

وأضاف بورتر: (ربما لا ينبغي أن نتوقع الكثير، فقد كشف كتاب والتون عن أن المسؤولين الاستعماريين أتلفوا أحياناً وثائق تجريمية واستبدلوها بمزورة، لتضليل المؤرخ. لا تستطيع أبداً أن تعرف أين أنت مع التاريخ السري، ما يشجع فقط أصحاب نظرية المؤامرة).

أصبحت الكونغو بعد اغتيال لومومبا ورفاقه في عام 1961 وانقلاب عام ،1965 قاعدة استراتيجية لوكالة الاستخبارات المركزية، وحربها لوقف التحرر التام لإفريقيا الجنوبية، وأخفقت جهود وكالة الاستخبارات المركزية بسقوط حكم موبوتو، ولاسيما بعد مجيء كابيلا.

مازالت جمهورية الكونغو الديمقراطية حتى اليوم مصدراً لعدم الاستقرار في القارة الإفريقية، ومازالت أجزاء كبيرة من المنطقة الشرقية الغنية بالمعادن خارج سيطرة الحكومة المركزية في كينشاسا.

العدد 1105 - 01/5/2024