أزمة هوية أم أزمة اندماج؟

يرى عدد من الباحثين العرب في الحراك الشعبي الحاصل اليوم في أقطار عربية عديدة، دليلاً مؤكداً على فشل الدولة في بناء هوية نهائية لها ولمواطنيها، تمكّنها من تحقيق الاندماج السياسي والثقافي والاجتماعي لشعبها ومكوناته المختلفة. إذ يمكن تصنيف الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل في مجموعتين كبيرتين.تتصل المجموعة الأولى ببنية المجتمع العربي الذي (يتكون حقيقة من عدد من الجماعات المتمايزة والمختلفة الانتماء، ولاسيما جماعات القبيلة والطائفة. وقد استطاعت هذه الجماعات المتمايزة بشكل أو بآخر أن تحافظ على هويتها الخاصة متحاشية الانصهار في بوتقة واحدة داخل المجتمع، وهذا يعني أن هذه البنى تعاني التصلب والجمود الذي يقهر إمكانية تشكل المجتمع في صورة عصرية وحضارية…) (1).

 تبعاً لهذه القراءة فإن فشل الدولة في الوطن العربي، في تحقيق الاندماج وتوحيد مشاعر انتماء مواطنيها لها يجد سببه في استمرار تأثير البنى الاجتماعية الموسومة ب(الجمود والتصلب.. والانعزالية والتخلف.. إلخ). ومع أننا لا ننفي حقيقة وجود هذه البنى التقليدية، فإننا نميل إلى الرأي الذي لا ينظر إليها بوصفها العامل الحاسم في فشل الدولة وعجزها عن تحقيق الاندماج السياسي والثقافي لمجموع مواطنيها. بل بعكس هذا الاتجاه يمكن النظر إلى استمرار هذه البنى على أنه نتيجة طبيعية لفشل الدولة في الوطن العربي، في تقديم نفسها هوية بديلة لهذه الانتماءات القبلية والطائفية والمذهبية والجهوية، والتي يمثل استمرار فاعليتها السياسية والثقافية علامة قاطعة على فشل الدولة في تحقيق نقلة مجتمعها من مستوى المجتمع التقليدي الذي ينتظم سياسياً في إطار الدولة(2).

 أما المجموعة الثانية من الأسباب فتنسب هذا الفشل إلى ممارسات السلطة داخل الدولة، وهي ممارسات توصف أنها لا ديمقراطية، عنيفة واستبدادية، مما زهّد موطنيها في الانتماء إليها كهوية جامعة لهم وضامنة لمصالحهم. وكرس بالنتيجة الانتماءات القبلية والطائفية… لديهم وأحياها (3). ومع أن هذا التفسير يحمل الكثير من الصحة، إلا أنه واجه اعتراض بعض الباحثين الاجتماعيين والسياسيين العرب، مثل شفيع بو منيجل، الذي يشير إلى القول بأن الاستبداد السياسي سبب في ظهور النزاعات الطائفية والقبلية والجهوية.. قول لا يمكن الاطمئنان إليه لأمرين اثنين (4):

الأول: هو أن استمرار النزعة الطائفية والقبلية هو نتيجة حتمية لفشل الدولة في بناء هوية تمكّنها من صهر قبائلها وطوائفها في بوتقتها السياسية والثقافية، مقابل تأسيس هذه الدولة على هوية جزئية لا تحظى بإجماع كل مواطنيها.

الأمر الثاني: هو أن المسألة الجوهرية في الجدل السياسي داخل الدولة في الوطن العربي لا تتلخص في سؤال من يحكم؟ أو كيف يحكم؟ فحسب، بل تتمحور أيضاً، وربما أساساً، حول (هوية الدولة)، هل الدولة كلّ مكتمل غير قابل للتجزئة، أم هي جزء من فضاء واسع؟ وهل هي قادرة واقعياً وعملياً على أن تكون معبرة بالفعل عن الإرادة العامة لمواطنيها وخادمة لمصالحهم المشتركة؟

 وإذا أخذنا هذين الأمرين بالحسبان جاز لنا القول بأن ممارسات الدولة الاستبدادية الراجعة إلى فشلها في تحقيق الاندماج الاجتماعي والسياسي والثقافي لمواطنيها، لا يجد تفسيره في بنية المجتمع العربية، ولا في كيفية اشتغال السلطة داخلها، هل هي ديمقراطية أم لا فحسب، بل يجب أن يعزى هذا الفشل إلى حقيقة الدولة ذاتها، بماهي دولة قطرية مؤسسة على هوية جزئية، ليست محل إجماع مواطنيها، لا يمكنها البقاء إلا بفرض (هويتها) الخاصة بالقوة، وإلزام الناس بالولاء لها (5).

 لكن بالمقابل، فإن الهوية العربية المتولدة عن وحدة التاريخ والثقافة، ليست أمراً طارئاً، أو نتيجة تقليد آلي لظهور الدولة-الأمة في الغرب(بحسب تفسيرات المناوئين للهوية العربية)، وإنما هي تجسيد لوعي العرب بوحدة تاريخهم ووحدة مصيرهم، وهو وعي متجذر في الماضي ومستمر في الحاضر(6).

 يترتب على الرؤية السابقة استنتاج مفاده أن تقسيم الوطن العربي كان على حساب وحدته الثقافية، التي تمثل هوية حقيقية له. ولذلك كانت الدول العربية المكونة حديثاً في حاجة إلى بلورة هوية خاصة بها، من أجل ترسيخ وجودها، كواقع موضوعي غير قابل للتشكيك، وبالتالي الجزم بأن (هويات هذه الدول جاءت نتيجة انقسام الوطن العربي سياسياً، وليست سبباً له) (7).

 ويعتقد أصحاب هذه الرؤية القومية بأن مجرد طرح مايسمى ب (خطاب الهوية)، يهدف في الحقيقة إلى التشكيك بالهوية العربية الواحدة من جهة، والسعي بالمقابل إلى خلق نوع من (التطابق الزائف)بين الكيانات السياسية الناشئة على امتداد الوطن العربي، أو المراد إنشاؤها، وبين مفهوم الهوية، من جهة أخرى.

 يتضح ذلك في الجدل الدائر حول ما إذا كانت الهوية ماهية ثابتة اكتملت، وتحققت في الماضي، أم هي تصور تاريخي دينامي تكتسب وتعدّل باستمرار(8).

 غير أن بعض الباحثين العرب يدرس هذه الإشكالية، انطلاقاً من فكرة المطابقة إلى حد كبير بين الهوية ومشاعر الانتماء، ويصنف استناداً إلى هذه المقاربة أربع هويات تتقاسم مشاعر الانتماء في الوطن العربي، وهي:

– الهوية الدينية.

– الهوية الإقليمية، وتعني تغليب العناصر والمحددات الجيوستراتيجية على تلك النابعة من الانتماء القومي.

– الهوية المحلية، من قبيل (الهوية الفرعونية) أو (الهوية المغربية) أو (الهوية الخليجية).. إلخ.

– الهوية السياسية الآيلة إلى الانتماء إلى تجمعات ومحاور داخل المجموعة العربية تبعاً لتطور المواقف السياسية(9).

 والحقيقة أنه لو جاز لنا الأخذ بهذه الطريقة في تحديد الهوية، لتضاعف عدد الهويات في الوطن العربي عن العدد المقترح أعلاه.ومع ذلك، فإن الملاحظات الأولية يمكن أن تدفعنا إلى القول بحقيقة تجذر مشاعر الانتماء إلى إحدى تلك الهويات بفعل معطيات تاريخية أو اقتصادية أو اجتماعية. إلا أن ذلك يجب ألا يحجب حقيقة توزع مشاعر انتماء المواطن العربي على سائر تلك الهويات.كأن يشعر المواطن التونسي مثلاً بأنه تونسي، مغاربي، عربي، مسلم…، لذلك لا يجوز النظر إلى هذه الهويات على أنها دوائر مستقلة بعضها عن بعض، بل كدوائر تنتمي إلى مركز واحد، أو بالأحرى كقطعة واحدة ذات وجوه متعددة.

 وإذ يرفض القوميون بصورة قاطعة القول بتعدد الهويات في الوطن العربي، فإنهم إنما ينطلقون من فكرة أن بعض هذه الهويات أوجلّها، زائف ومصطنع، وهي في النهاية ليست هويات بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.وعلينا حينئذ التمييز بوضوح بين الهوية الجزئية أو الطارئة، (التي هي جزء من هوية أشمل، تستخدم عادة لتغليب طائفة على أخرى، أو قبيلة على قبيلة، أو مذهب على آخر)، والهوية الرئيسة الجامعة والثابتة التي تجمع هذه الطوائف والقبائل والمذاهب وتصهرها في بوتقة واحدة.وعليه، فإن القول بتعدد الهويات في الوطن العربي، سببه حجب حقيقة تمثل جميع العرب لهوية عربية واحدة، تتميز بالشمول والكلية(10).فالتنظير لهذه الهويات الجزئية، والقول بشرعية وجودها، لايتم إلا من خلال العمل حثيثاً على إحياء الميت من التاريخ، ووأد أو استبعاد الحي من الحاضر.إذ يتضح ذلك جلياً من خلال العودة إلى تاريخ سحيق، والتمسك المبالغ بحضارة مغرقة في القدم دون غيرها (كالفرعونية والفينيقية)، وفي عملية الإحياء المتعمد للروابط والعناصر الطائفية والقبلية والجهوية والمذهبية، من ناحية، ومحاولات التشكيك في وجود أمة عربية واحدة وهوية عربية جامعة لهذه التكوينات الاجتماعية من ناحية ثانية.

 وفي جميع الأحوال فإن مقاربة مسألة الهوية في الوطن العربي غلب عليها المنحى السياسي التبريري. وهو ما أفضى إلى كثير من اللغط والمماحكات غير المجدية وحتى الابتذال.ولذلك فإن البحث الجاد في ما إذا كانت هذه الهويات حقيقية أم زائفة، يجب أن ينطلق من قياس مدى فاعلية هذه الهوية، في صهر المكونات المجتمعية كافة في إطار الدولة القائمة، والإجماع على مسألة الانتماء إليها، والقبول بالخضوع الطوعي لسلطتها.ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال الإجابة عن السؤالين المحوريين التاليين:

1 – هل نجحت الدولة في الوطن العربي، في بلورة هوية خاصة بها تميزها عن سائر الدول العربية الأخرى؟ بمعنى هل تحققت هويتها الجغرافية والبشرية بشكل قاطع ونهائي؟

2 – إلى أي حد تمكنت هوية دولة عربية ما من جعل شعب تلك الدولة يشعر بالانتماء إليها دون سواها، ويقبل بها فضاء جغرافياً وسياسياً تتحقق في إطاره إرادته العامة، وتضمن مصالحه العليا؟

 واللافت للانتباه في هذا السياق ماخلص إليه (التقرير النهائي لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربي)من أن الدولة في الوطن العربي تنازعتها عند ولادتها (على الأقل ثلاث هويات متنافسة: الوطنية والقومية والدينية)، وكان من شأن كل اختيار يركز بشكل ضمني أو صريح على أي من الهويات الثلاث أن يحدث مشكلات داخلية أو إقليمية. فالدولة القُطرية (بضم القاف)التي اختارت أن تؤكد أو تخلق (هوية وطنية) نهائية، اصطدمت بمشاعر قطاع كبير من مواطنيها الذين يرنون إلى التواصل والالتحام في جماعة سياسية حضارية أوسع (مثل الأمة العربية أو الإسلامية)، ثم اصطدم بعضها فيما بعد بحقيقة ضيق قاعدة الموارد القُطرية اللازمة لبناء الدولة الحديثة.

 أما الدولة التي اختارت (الهوية العربية) (القومية) هدفاً نهائياً.. فإنها اصطدمت بمشاعر تكوينات إثنية، غير عربية في داخلها (الأكراد، الأمازيغ، قبائل جنوب السودان)، كما اصطدمت أو صدمت بدول قطرية أخرى كانت وطنيتها القطرية (بضم القاف)اختياراً نهائياً لها(11).

 ويتبين من هذا التشخيص ذي المنطلقات العربية حقيقة أن الدولة في الوطن العربي، ومن نشأتها لم تتأسس على هوية واضحة، وأنها لم تحسم بعد في هويتها النهائية أو أنها، على عكس ما وقع في أوربا، تأسست، أو بُرّر تأسيسها بهوية لا تحظى بإجماع مواطنيها.ولذلك، وعلى خلاف الدولة في أوربا، لم تفلح في تحقيق الاندماج الاجتماعي، ولم تنجح في صهر مواطنيها، على اختلاف فئاتهم وشرائحهم في بوتقتها السياسية والثقافية. وهو ما يعني أنها لم تفلح في تقديم نفسها إطاراً جغرافياً وسياسياً وشرعياً لعيش مواطنيها وانتظامهم. فكثير من الدراسات والبحوث الميدانية العربية والأجنبية الموثقة يثبت حجم الممارسات العنيفة والاستبدادية والقهرية، التي تعتمدها الدولة في الوطن العربي، ما يسمح لتأكيد أنها ماتزال تعيش هواجس كثيرة وكبيرة، في مقدمتها هاجس الخوف من التفكُّك أو الإلحاق بكيانات أوسع أو حتى الإلغاء، وهي مخاوف مترتبة عن وعيها باعتباطية حدودها الجغرافية، وضعف تأثير خطابها الثقافي والإيديولوجي في توحيد مشاعر انتماء مواطنيها لها، والقبول الطوعي بقوانينها وتوجهاتها.

 لكن الطريف في الأمر، يتمثل في أن سائر الدول العربية (بصرف النظر عن اختلافات أنظمتها السياسية)اتبعت أو أخضعت ذاتها للمسارات والإجراءات نفسها لبلورة هوية (وطنية)خاصة بها.

 لذلك أصبح من غير المستغرب أن عدداً من الدول العربية لن تجد من سبيل لتأكيد سيادتها الوطنية أو استقلالها بعضها عن بعض إلا من خلال حرصها على إبراز خلافاتها وتباين سياساتها ومواقفها وشعاراتها. بل ومن أجل تأكيد هذا الاستقلال تعمد كل دولة عربية إلى تنصيب رجل إفتاء يستطيع بعينه السياسية أن يرى الهلال الخاص بدولته دون سواها، والمبشر بحلول رمضان، كما يمكنه بالعين نفسها رؤية هلال عيد الفطر الخاص بها وحدها.

 أما السياسات الداخلية فتمثلت بوجود ميل صريح أو ضمني لدى الأنظمة والحكومات العربية نحو ممارسة القوة والعنف والتفرد بالسلطة.

 ولقد نسب بعض الباحثين العرب هذا الميل إلى (فشل الدولة الواضح في بناء هوية نهائية لها ولمواطنيها، تمكّنها من تحقيق الاندماج السياسي والثقافي والاجتماعي لشعبها) (12).بل إن عدداً من الدارسين يجزم بأن استمرار وتنامي النزاعات الطائفية والقبلية…هو نتيجة حتمية لفشل الدولة في بناء هوية، تمكنها من صهر قبائلها وطوائفها في بوتقتها السياسية والثقافية من ناحية، وإنما بالعكس من ذلك جرى تأسيس هذه الدولة على هوية جزئية، من ناحية ثانية.

 ولا شك أن مسألة الهوية تنطوي في الأساس على معان رمزية وروحية وحضارية جماعية، تعطي الفرد إحساساً بالانتماء إلى جسم أكبر، وتخلق لديه الولاء والاعتزاز بهذا الجسم الأكبر.ولكن لا يقل أهمية عن هذه الوظيفة الرمزية-الروحية- الحضارية للهوية، وظيفة عملية أخرى، ونقصد بذلك فعالية الدولة التي تحمل هذه الهوية وتروج لها: في الدفاع عن أرضها ومجتمعها، وفي تنمية اقتصادها، وفي إشباع الحاجات الأساسية لمواطنيها، وفي تحقيق حد معقول من العدالة التوزيعية بين أفرادها وفئاتها.

ومع نهاية عقد السبعينيات وبداية عقد الثمانينيات (في القرن الماضي)، كانت مؤشرات عجز المشروع القطري الخاص، والهوية التي صاحبته، تتراكم واحدة بعد الأخرى.فإذا كانت الهوية القومية، والمشروع العربي العام الذي صاحبها في الخمسينيات والستينيات (في القرن الماضي)، قد تعثرا، فإن المشروع القُطري الخاص قد فشل أيضاً.

 فلأول مرة منذ نشأة الدولة العربية قبل عقود، يتعرض بعضها لخطر الزوال أو التفتت أو الضم أو الانفجار من الداخل…يستوي في ذلك معظم الدول العربية الغنية منها والفقيرة على حد سواء (13).

 لكن أزمة الهوية لاتنفصل عن أزمة حادة أخرى، تتمثل في ضعف أو هشاشة الاندماج السياسي والاجتماعي والثقافي، في معظم أقطار الوطن العربي، سواء كان ذلك لأسباب إثنية (عرقية-قومية) أم لأسباب قبلية أو طائفية أو مذهبية أو جهوية أو طبقية- اجتماعية.

 ومع أن قضية ضعف الاندماج تشكل عنصراً شديد الحساسية والخطورة، بالنسبة إلى الدولة واستقرارها، وكذلك بالنسبة إلى مستقبل العلاقات بين مكوناتها الاجتماعية والثقافية والعرقية والطائفية والقبلية المختلفة (طبعاً مع اختلافات وتباينات بين قطر عربي وآخر)، إلا أن هناك تجاهلاً متعمداً أو تغييباً لهذه المسألة، تحت عناوين ومبررات زائفة وغير مجدية.

 وبرأينا فإن محاولة إغلاق هذا الملف المعقد، يشكل هروباً من الواقع، وعدم اعتراف بالمشكلة القائمة، ناهيك باستحالة تأجيل بحثها أو طمس ملامحها وآثارها المتفاقمة يوماً بعد آخر.

 فالعوامل المؤدية إلى التنافر وعدم الاندماج الاجتماعي والسياسي والثقافي والوطني، هي التي تيسر التدخلات الخارجية، إن لم يتم دراستها وتحليلها وإشراك الفئات والشرائح المعنية بها في بحثها ومعالجتها، بصورة واقعية وبناءة.أما في حال العكس، فإنها بالتفاعل مع العوامل والظروف الوطنية الأخرى ستؤدي إلى الانفجار.فالمطلوب في الأقطار العربية، وبخاصة الأكثر تنوعاً من النواحي الإثنية والطائفية والقبلية والمذهبية والطبقية، الإسراع في بناء مؤسسات الدولة الحديثة على أساس تعددي ديمقراطي، وتنفيذ برامج تنموية شاملة، تخفف من حدة الاستقطابات والاختلالات الطبقية والاجتماعية، واتباع صيغ أكثر فاعلية في إقرار العدالة الاجتماعية التوزيعية. فمن شأن ذلك أن ينزع فتيل القنابل الإثنية والطائفية والطبقية-الاجتماعية، ويرفع من مستوى وفاعلية الاندماج السياسي والاجتماعي والثقافي لكل فئات المجتمع وشرائحه ومكوناته.

(فأحد مفاتيح المستقبل العربي في العقود الثلاثة المقبلة يكمن في المسألة الإثنية. ومعظم الحروب الأهلية التي انفجرت منذ الاستقلال كانت بسبب هذه المسألة. ويتوقف مصير الدولة على قدرتها على التعامل الخلاق مع هذه المسألة، وبخاصة في الأقطار الأقل تجانساً والأكثر تنوعاً) (14).

 من ناحية أخرى، يؤكد أكثر من باحث عربي أن أية سلطة تمسك بالدولة وتهيمن على المجتمع المدني، ثم لا تتصرف كسلطة وطنية للجميع بلا استثناء، بغض النظر عن جذورها وجذورهم التاريخية القديمة، فإنها تعمل في الواقع على تحويل نفسها إلى عصبية أخرى بين البنى العصبوية القائمة- لا حكم بينها- فتفقد بالتالي دورها الجامع للشمل، وتحرض العصبيات الأخرى، ضمناً، على الحلول محلها في صراع مفتوح بين جميع العصبيات من حاكمة ومحكومة، أي أنها تختزل نفسها من قيادة للوطن والدولة إلى (فصيل) يتنازع مع العصائب الأخرى ويحرضها على الانتفاض عليه، وذلك ما يتهدد في الواقع عدداً غير قليل من الأنظمة العربية، ما لم ترتفع إلى مستوى قيادتها للمشروع الوطني المشترك ودولته الحديثة، وتتجاوز الجذور التاريخية العصبوية لنشأتها الخاصة (15).

 ففي أقطارنا العربية، يتمثل دور الدولة الأهم (بعد صيانة سيادتها الوطنية واستقلالها التام والحفاظ على أمنها ووحدة ترابها)، في تحقيق التوحيد الوطني والاجتماعي.وذلك من خلال عملية صهر وانصهار للتكوينات الاجتماعية المختلفة، في بنية جديدة، تقوم على الإرادة الواعية للانتماء إلى الوطن، بحيث تعلو على جميع التشكيلات العصبوية الفرعية أو الصغرى ما قبل الدولة (عشائرية أو طائفية أو مذهبية أو جهوية.. إلخ)، والعاملة كبنىً مغلقة. فدور الدولة هنا تأسيس وطن أو كيان وطني، وهو ليس الجغرافيا أو التاريخ أو المشاعر فقط، بل أيضاً وأساساً الاجتماع والاندماج السياسي والاجتماعي الواعي، والقائم على نظام من العلاقات السياسية -الحقوقية للمواطنة التامة لجميع أفراد ومكونات المجتمع.

وغني عن القول-ختاماً- أن قدرة الدولة على النهوض بدور وطني توحيدي وإدماجي، مرتبطة بامتلاكها لمشروع نهضوي تنموي شامل ومتكامل، يحظى بموافقة مواطنيها من جهة، ويستند على قدرتها في تجديد نفسها من الداخل، وتأمين شرعيتها على أسس ومعايير وطنية جامعة، من جهة أخرى.

 

 

الحواشي:

 

(1)علي أسعد وطفة، (إشكالية الهوية والانتماء في المجتمعات العربية المعاصرة، (المستقبل العربي، السنة

 ،25 العدد 282(آب/أغسطس2002)، ص103.

(2)شفيع بو منيجل، (هوية الدولة والمسألة الديمقراطية في الوطن العربي)، في: أحمد عوض الرحمون (وآخرون)، الدولة الوطنية المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكك، الفصل الخامس، سلسلة كتب المستقبل العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، ص92.

(3)وطفة، المصدر السابق نفسه، ص 54.

(4)شفيع بو منيجل، المصدر السابق نفسه، ص 92-93.

(5) المصدر نفسه، ص 93.

(6)انظر بهذا الصدد: عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984).

(7)شفيع بو منيجل، المصدر السابق نفسه، ص83-84

(8)انظر: محمود أمين العالم، (الثقافة والعولمة ) النص الجديد (قبرص)، العدد8 (1998)، ص 9-10.

(9) انظر: عفيف البوني، (في الهوية القومية العربية)، في: دراسات في القومية العربية، سلسلة كتب المستقبل العربي، 5 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984)، ص32.

(10)شفيع بو منيجل، المصدر السابق نفسه، ص 85.وانظر كذلك: منير السعيداني، مقدمات في علم اجتماع الهوية (صفاقس: دار علاء الدين، 2005).

(11)انظر: مستقبل الأمة العربية: التحديات…والخيارات: التقرير النهائي لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، التقرير النهائي، المشرف ورئيس الفريق خير الدين حسيب (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988)، ص 533-534.

(12)شفيع بو منيجل، المصدر السابق نفسه، ص91.

(13)انظر: الدكتور سعد الدين إبراهيم (منسق الدراسة ومحرر الكتاب)، المجتمع والدولة في الوطن العربي، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988)، ص 332.

(14)المصدر نفسه، ص265.

(15)محمد جابر الأنصاري، (إشكالية التكوين المجتمعي العربي: أقليات.. أم أكثرية متعددة؟). في: د.عدنان السيد حسين (منسق)، النزاعات الأهلية العربية: العوامل الداخلية والخارجية(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997)، ص 40.

العدد 1105 - 01/5/2024