وهم الحضارة

في أواسط القرن الثامن عشر وفيما كانت أوربا منهمكة بقطاف أولى بواكير ثورتها الصناعية الكبرى مستبشرة بوقوعها على حل سحري سيلقي عن كاهلها عبء مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة،خرج المفكر والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 – 1778) على العالم بمذهبه الطبيعي، مبشراً بحتمية عودة الإنسان إلى حضن الطبيعة الأم، ونبذ الحياة المدنية المصطنعة محذراً من شرور النزوع إلى كل ما يتعارض مع الفطرة البدائية الأولى للإنسان، حتى وصل به الأمر إلى حد معاداة العلوم والفلسفة والتفكير عامة، لأن العلم لا يجعل الإنسان فاضلاً صالحاً بل يجعله أكثر براعة في الغش والفساد كما يرى.

للوهلة الأولى بدا المذهب الجديد أشبه ببدعة رومانسية تفتقر إلى الواقعية وفكرة طوباوية معاكسة لتيار التاريخ المندفع بخطا حثيثة نحو التطور والتحضر. فاصطدمت بوعي جمعي ثمل بنشوة الآمال المعقودة على ذلك التطور الهائل لوسائل الإنتاج وآلياته. ثم ما لبثت أفكار مذهبه أن بدأت تسري شيئاً فشيئاً في أوساط المجتمع الفرنسي، الذي أخذ يلمس بعضاً من وطأة سلبيات هذا الاندفاع المحموم نحو المادية، حتى تكرس مذهبه مدرسةً فلسفية إنسانية متكاملة امتد تأثيرها ليعم أرجاء أوربا والعالم. قطعاً، لم يكن روسو يقرأ الغيب، حين استشرف باكراً ما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا التحول النوعي من محاذير قد لا تحمد عقباها. وإنما خلص إلى هذه النتيجة بعد دراسة دقيقة معمقة لتاريخ المجتمعات البشرية ومسيرة تطورها، آخذاً بالحسبان مدى تأثير العامل الاقتصادي على مختلف جوانب الحياة الأخرى، ولا سيما السياسية منها. إلا أننا لا نعلم يقيناً إن كان قد امتلك من بعد النظر ومَلَكة التشاؤم ما يمكِّنه من تصور حجم الويلات والكوارث التي نجمت عن الاستخدام الشرير لذاك الكم الهائل من الاكتشافات والفتوحات والثورات العلمية العظيمة التي تلت عصره حتى يومنا هذا، والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى. اليوم.. ولما يتح لنا بعدُ التقاط أنفاسنا التي تقطَّعت بفعل محاولاتنا الحثيثة للحاق بركب العصر واستيعاب تداعيات غزو الثورات العلمية المتتالية (الذرة – غزو الفضاء – الاتصالات -الأتمتة- الاستنساخ….إلخ) تتواتر المؤشرات الدالة على أننا بتنا على أعتاب ثورة جديدة، عنوانها العريض (تقنيات النانو). كشف علمي آخر يبشر بإنجازات تكنولوجية كانت حتى الأمس القريب مجرد مادة لأفلام الخيال العلمي، وتطبيقات ثورية ستجتاح سائر جوانب حياتنا وتفاصيلها، وربما لن تنجو منها أجسادنا وعقولنا أيضاً. هذا ما يبشرنا به أصحاب الشأن والاختصاص الذين ما انفكوا في السنوات القليلة الماضية يتنافسون في رفع سقف تقديراتهم وتنبؤاتهم بمقدار التحول أو الانقلاب الذي ستشهده البشرية في مستقبلها المنظور على ضوء هذا الفتح العلمي الخطير.

لا أود أن أبدو متشائماً أو (نستولوجياً) من جماعة (سقى الله أيام زمان)، ولكن يبدو من نافل القول إن سيرة بني البشر في طريقة تعاطيهم مع نتاج ما توصل إليه العقل البشري من اكتشافات واختراعات منذ اختراع العجلة وحتى اليوم،لا تبشر بخير، وتستدعي التوقف ولو لبرهة للتساؤل عن جدوى كل ما بلغناه مما نحب أن ندعوه حضارة تارة  ورقياً تارة أخرى، يفترض به أن ينعكس سعادة  وراحة  وعيش رغيد.

هل كان روسو حين أطلق صرخته الجريئة التي لا يزال صداها يتردد – وإن خافتاً – في شتى أصقاع العالم حتى اليوم، غافلا عن قيمة ما قدمه تطور العلوم من إنجازات مهمة سُخرت لخدمة البشرية جمعاء، كعلاج الأمراض، والحد من تفشي الأوبئة، وتأمين موارد جديدة.. وغيرها مما يفوق الحصر من اكتشافات يسَّرت شؤون الحياة؟ هل كان ناكراً جاحداً  لكل تلك النعم، أم أنه قد فاضل بينها وبين السلبيات التي واكبت مسيرة تطور الإنسان مذ ترك مغارته إلى أن شيِّد سجن الباستيل، فاكتشف أن الأمر أشبه بالدوران في حلقة مفرغة أو السعي وراء سراب؟

كيف لنا ألا نتساءل عن جدوى كل ذلك التطور في مجال الطب، الذي  أنقذ أرواح مالا يحصى من بني البشر ولا شك، حين نجد أن أضعاف أعداد هؤلاء لا يزالون يلقَوْن حتفهم ضحايا ابتكارات أخرى هي في النهاية نتاج ذات اللهاث نحو التطور والتحضر؟ ويكفي إلقاء نظرة سريعة على أعداد ضحايا حوادث السير، في واحدة من الدول الأكثر تحضراً في العالم، لإدراك هول الثمن الذي يُدفع كل يوم – بل كل ثانية – كضريبة للتحضر والرفاهية. أما عن الثمن الأكثر شهرة ورعباً، والمتمثل بأعداد ضحايا الأسلحة التي لا تنفكُّ تغدو أكثر تطوراً وفتكاً فحدّث ولا حرج. وحسبنا منها استحضار صورة واحدة من التاريخ القريب كمثال حي على ما يمكن أن يواكب مسيرة تطور العلوم من شرور..  صورة مدينة هيروشيما اليابانية، التي كانت أولى ضحايا تطور علوم الذرة التي طالما سُوِّقت على أنها ينبوع الطاقة السحري الذي سيرفد مسيرة تطور وسعادة الإنسان إلى الأبد، فإذ بها كابوس مرعب لا يزال يجثم على صدور سكان الكوكب بأسرهم. ما جدوى كل ما بلغناه من تطور في وسائل الإنتاج، إذا كان عدد الجياع في العالم يتزايد يوماً بعد آخر باطراد مخيف؟ ومادام أحدنا عليه أن يعمل عشر ساعات في اليوم على الأقل لتأمين كفافه؟

لنسأل أنفسنا ونجيب بكل صدق وشفافية: من تراه أقرّ عيناً وأهنأ عيشاً وأهدأ بالاً؟ أنحن ورثة عشرات القرون من التطور والتحضر والمدنية، أم ذاك الصياد السيبيري القابع في ليلة عاصفة قبالة موقد متقد يلقي بنوره الباهت على جدران بيته الجليدي متلذذاً بشرب منقوع أعشاب برية ساخن بانتظار نضوج وجبة عشائه المقتصرة على سمكة مشوية على الجمر؟

لوحة بالغة الرومانسية! صحيح.. ولكنها واقعية أيضاً، ما كان لها أو لأشباهها أن تغيب عن مخيلة الزعيم الهندي الحكيم المهاتما غاندي (1869 – 1948) حينما قال: (ليست الحضارة في مضاعفة حاجات الإنسان، بل في اختصارها طواعية، لأنها الطريق الوحيد نحو السعادة).

العدد 1105 - 01/5/2024