الدولة لخدمة الأغنياء فقط

قصة أوربا يرويها إيمانويل تود:

هي قصة قصيرة جداً، الأغنياء يتحكمون بالدولة عبر المصارف، والخاسر هو الطبقات الاجتماعية الأخرى، والفقراء تحديداً. الدولة اليوم ليست هي الراعي لمصالح العامة، بل إنها في خدمة الأوليغارشية المرتبطة بالأسواق. هكذا يختصر المفكر الفرنسي إيمانويل تود الأزمة الأوربية حالياً، وفرنسا من أفضل الأمثلة على ذلك، إذ كانت الرأسمالية وسياسة الانفتاح كفيلتين بالسيطرة على حكومات الاشتراكية الديموقراطية في أوربا، وبالتالي خسارة الفقراء لمصلحة الأوليغارشية المسيطرة على الدول.

وفي فرنسا على سبيل المثال، رأى تود في الرئيس الحالي فرانسوا هولاند، الآتي من الحزب الاشتراكي، الحل الأنسب للخروج من (الساركوزية) (الرئيس السابق نيكولا ساركوزي)، فهو في نظره الوحيد القادر على إنعاش اقتصاد البلاد بعد سياسة يمينية لم تزد الأزمة الاقتصادية إلا سوءاً. حمل ساركوزي قيماً بروتستانتية متشددة، ترى في النموذج الأمريكي النموذج الأنجع، وكانت النتيجة فقدان الدولة لمصلحة القطاع الخاص باسم الليبرالية والانفتاح.

ولكن هولاند خسر الرهان كذلك، وفقد فرصته الأولى على الأقل، بحسب ما يقول تود في مقابلة مع صحيفة (لو ماريان) في شهر أيار الماضي. أما الأسباب فمتنوعة، ومن بينها عدم قدرته على فرض سياسة ضرائبية على الأغنياء يصل سقفها إلى 75 في المئة. كما أن الإصلاحات على سوق العمل جعلته على يمين ساركوزي (مرونة أكثر للشركات مقابل تعزيز حماية الموظفين). ويضاف إلى ذلك أن سياسته كانت كفيلة بتفريغ الإصلاح المصرفي من محتواه. ويجدر الاعتراف ببعض التعديلات (التجميلية)، إلا أن الدولة ستبقى ضامنة لأربعة مصارف فرنسية كبرى على الأقل. من ثم حصلت فضيحة كاهوزاك. وهي بنظر تود، قصة رائعة، تُختصر بأن حامي تقشف الميزانية هو أصلاً شخص فاسد، (ببساطة ما حصل يختصر بدهاء التاريخ) لفضح الأنظمة، خصوصاً أن كاهوزاك لم يكن العنصر الفاسد الوحيد، بل هو مجرد جزء من مؤسسة كاملة. جيروم كاهوزاك كان الوزير المسؤول عن الميزانية، لكنه اتضح في ما بعد أنه يمتلك حسابات مصرفية غير معلنة في سويسرا وسنغافورة.

فضيحة كاهوزاك كانت كفيلة بكشف حقيقة الدَّيْن العام. وهنا لفت تود إلى أن كارل ماركس رأى ذلك فعلاً حين رأى أن القروض الممنوحة للدولة ليست سوى صك أمان لثروات الأغنياء. وهي مجرد اختراع من القطاع المالي الخاص. أما التقشف، فليس سوى وسيلة من أجل الحفاظ على موقع الدولة لخدمة المصالح المصرفية، ومنها للأغنياء. (الأثرياء لم يكونوا في حياتهم كبش فداء، بل إنهم أصل المشكلة)، يختصر المفكر الفرنسي.

يتحكم الأغنياء بالدول تحت ذريعة حماية أموال صغار المستثمرين والأسواق. وهم أساساً، بنظر تود، لا يحاربون الدول، بل يصارعون من أجل السيطرة عليها أكثر. إن تراكم الأموال لدى الطبقات العليا، هو ميزة العصر الحالي. أما انخفاض مداخيل الناس العاديين فيسير جنباً إلى جنب مع ارتفاع مداخيل الواحد في المئة الأكثر ثراء، أما الدولة، فيجب الاعتراف بتناقضاتها، والاعتماد على الجزء المنطقي من الماركسية لفهم ما يحصل. الدولة هي تجسيد المصلحة العامة المتحدثة باسم الطبقة المهيمنة. في فرنسا مثلاً، الدولة الديغولية، وبرغم ما يقال عن الحزب الشيوعي، تحركت من أجل المصلحة العامة، وحققت النمو للجميع. أما اليوم، فقد تحولت بشكل أساسي إلى دولة طبقية يحركها الرأسمال. تلك الحقيقة اختصرها تود في مقابلة قديمة مع مجلة (لو بوان) الفرنسية في كانون الأول عام 2011. وببساطة، الأسواق هي لعبة الأغنياء بالدول. الأغنياء لا يتقاتلون مع الدول، ولكنهم يتقاتلون من أجل إحكام السيطرة عليها.

وبالتالي، فإن ما يحصل اليوم، بالنسبة لتود، يقع في صلب الأيديولوجية المسيطرة، فقد تحول المال إلى الدَّين، وعرقلة الاقتصادات المتطورة هي نتيجة تراكم المال غير المستعمل في رأس الهرم الاجتماعي. أما وسيلة الأغنياء لإحكام السيطرة على الدولة، فهي المصارف.

ولاختصار القصة العالمية، يمكن القول إن الأغنياء يعشقون الدين العام، والدولة التي تقترض هي الدولة القادرة على ضمان الأمن الكامل لأموال الأغنياء. وعلى الدولة إنقاذ الأغنياء، وكلمة السر هي المصارف، لأن الأخيرة تتحكم أيضاً بوسائل دفع المواطنين، وبالتالي فإنها استطاعت أخذ الدولة رهينة لمصلحة الأغنياء. (ولو اعتمدنا على التأميم لكنا قادرين على ضمان اقتصادات الناس العاديين)، يقول تود، وبالتالي، فإن الحقيقة اليوم، ليست في أن الدولة غير قوية، وإنما هي في خدمة الأوليغارشية.

فهولاند مثلاً ليس سوى رئيس محلي في منطقة اليورو، وفقاً لتود، والحقيقة هي (أننا عدنا إلى الوضع حيث كان مصرف فرنسا ملكاً ل200 عائلة. ولكن اليوم، ليست ال200 عائلة الفرنسية هي التي تضع القوانين، بل ألمانيا).

إن أرباب عمل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لا يريدون انفجاراً في منطقة اليورو. إنهم أرباب العمل الألمان المنظمون الذين يسمحون للمصرف المركزي الأوربي بإجراء سياسات إنقاذ للمصارف. ويشير تود، إلى أنه يلزمهم أربع سنوات فقط لإطلاق الرصاصة على الاقتصاد الفرنسي، وهي فترة ولاية هولاند.

فالصورة كالتالي: أرباب العمل الألمان ومن بعدهم ميركل، عليها إدارة المحميات الأوربية. وبأوامر مباشرة من رب العمل الألماني، يعمل المصرف المركزي الأوربي، والأخير يوجه المصارف الفرنسية والمصارف الأوربية الأخرى؛ وتحت سيطرة المصارف يأتي محققو المصارف، أما هولاند فهو في أدنى الصورة، فليس لديه عمل محدد.

إن تاريخ ألمانيا الديموقراطية الاشتراكية ليس سوى استمرار للبروتستانتية، إذاً بالنتيجة، ألمانيا هي المشكلة في أوربا اليوم، وهي مهووسة في فرض سياسات تقشف تجعل من أوربا البقعة السوداء في الاقتصاد العالمي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن اليورو تحول إلى عملة بحاجة دائمة إلى الإنقاذ.

  عن (السفير)

العدد 1105 - 01/5/2024