السيارات الكهربائية إلى الشوارع مجدداً

ذات يوم من عام ،1948 أراد (آري هاجن – سميت)؛ أستاذ الكيمياء بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، أَخْذ استراحة قصيرة من عمله، فخرج من عمله ليتنسم الهواء الطلق، ويستريح قليلاً من عناء العمل في مختبره الذي يمضي فيه جل يومه، محاولاً فك شفرة رائحة الأناناس التي استعصت عليه، رغم أنه لم يبذل جهداً كبيراً في بحثه لاكتشاف العناصر الكيماوية المتفاعلة والمسببة لرائحة البصل، والثوم، والنبيذ، وكذلك معرفة العنصر الفعّال في نبتة الماريغوانا المخدرة. ولكن بدلاً من الهواء الطلق الذي اعتقد أنه سيستنشقه، إذا به يجد نفسه عالقاً وسط غمامة كثيفة من الضباب أو الدخان الأسود، تذكر (سميت) النقاش الذي كان وقتئذٍ محتدماً حول الأشياء التي تسبب الضباب الدخاني، وقرر أن يوقف مؤقتاً بحثه في موضوع رائحة الأناناس، ليركز جهده على اكتشاف مصدر ذلك الضباب. ما وجده (هاجن ـ سميت) في ذلك الوقت يكشف لنا أسباب عودة السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية مثل (ليفس) و(فولتس) و(تيسلاس) وغيرها من السيارات التي وعدت شركات السيارات بتصنيعها خلال السنوات القليلة الماضية، للظهور في الشارع مرة أخرى. وأقول للظهور (مرة أخرى) لأن الأمر الذي ربما لا يعرفه سوى عدد قليل من الناس هو أن عدد السيارات التي كانت تعمل بالبطاريات الكهربائية في شوارع نيويورك عام ،1900 كان يزيد على عدد السيارات التي تعمل بآلية الاحتراق الداخلي، وأن النوعين قد ظلا يتنافسان عدة سنوات إلى أن طرح هنري فورد صانع السيارات الشهير (الموديل تي) الذي كان يعمل  على البنزين، ليحسم الصراع لمصلحة السيارات التي تعمل بآلية الاحتراق الداخلي، ولتصبح السيارات التي تعمل على البطارية الكهربائية من الماضي.

منذ ذلك الوقت بدأ الدخان الأسود الناتج عن عوادم السيارات يتكاثف تدريجياً بانتشار السيارات على نطاق واسع في شوارع المدن الكبرى، ما كان يزيد من مشاكل التنفس، ويدفع المدارس لإلغاء الاستراحات بين الحصص المدرسية حتى لا يخرج التلاميذ إلى الساحات المفتوحة في المدارس، ويدفع السائقين الذين كانت الرؤية تنعدم أمامهم بسبب كثافة الدخان الأسود إلى إيقاف سياراتهم على جانب الطريق حتى ينقشع. وذات مرة وأثناء تكاثف الدخان الأسود بصورة غير مسبوقة في لوس أنجلوس، طلب (مجلس محلفين) بالوكالة عن سكان المدينة من عمدتها، أن يفعل شيئاً حيال هذا الأمر، ولكن العمدة قال إنه ليس بوسعه القيام بأي شيء سوى إصدار نداء يطالب فيه بإيقاف حركة السيارات، ونصح الناس بالبقاء في بيوتهم. كان المصدر الرئيس لتلك السحب الكثيفة من الدخان الأسود، هو العوادم الناتجة عن احتراق البنزين في آليات الاحتراق الداخلي، وليس محارق القمامة الموجودة في ساحات البيوت الخلفية كما كان يعتقد من قبل.

 هاجن ـ سميث هو نفسه من اكتشف ذلك، ما سهّل له فيما بعد إصدار أول قانون لتنظيم الانبعاثات الغازية من عوادم السيارات، والذي كان ينص على تركيب قطع معينة في تلك العوادم للتقليل من كمية الانبعاثات والتخفيف من أضرارها قدر المستطاع. ولاحقاً حين كان رونالد ريغن حاكماً  لولاية كاليفورنيا عام ،1967 حوّل هذا القانون إلى مجلس يعرف باسم (مجلس الموارد الهوائية لكاليفورنيا)، واختار هاغن ـ سميث رئيساً لمجلس إدارة الهيئة مكافأة له على جهوده التي بذلها في اكتشاف مصادر الضباب الأسود. ولأن كاليفورنيا كانت سوقاً ضخماً للسيارات، ولأن الولايات الأخرى كانت تتبنى اللوائح والقوانين التي تتبناها كاليفورنيا عادةً، فإن (مجلس الموارد الهوائية لكاليفورنيا) تطور تدريجياً وتوسعت صلاحياته لدرجة جعلت منه فيما بعد نسخة أولية لهيئة عالمية لتنظيم الانبعاثات الغازية لصناعة السيارات. منذ البداية وتحت قيادة هاجن – سميث صب المجلس معظم جهوده على حل مشكلة الضباب المختلط بالدخان.

في عام 1990 اتخذ المجلس خطوة تاريخية، فقد أصدر قانوناً اشترط بموجبه أن تكون نسبــة العـــادم في الـ 10 بالمئة من إجمالي السيارات المبيعة في كاليفورنيا، صفراً تقريباً بحلول عام 2003. وكان التطبيق العملي لذلك هو إنتاج سيارات تعمل على الكهرباء سُميتْ (ZEV) وهو اختصار لعبارة (سياراتي تبلغ نسبة غاز العادم فيها صفراً). وأنفقت شركات السيارات الكبرى مثل (جنرال موتورز) ملايين الدولارات من أجل تطوير ذلك النوع من السيارات موديل(EV1 ) لجنرال موتورز وطراز (RAV4) لتويوتا، وهي الموديلات التي بات يطلق عليها اسم السيارات الهجينة، التي لم تجد سوى اهتماماً ضئيلاً من جانب المستهلكين عند طرحها في السوق.

لم يكن صناع السيارات هم المسؤولين عن ذلك، وإنما درجة كفاءة التقنية أو الافتقار لتلك التقنية في الأساس. حول هذه النقطة يقول دانييل سبيرلنغ مدير (معهد دراسات النقل) بجامعة (كاليفورنيا ديفيز)، والعضو الحالي لمجلس الموارد الهوائية: (كان المجرم الحقيقي المسؤول عن ذلك هو البطاريات… فكل ما في الأمر أن البطاريات في ذلك الوقت لم تكن قادرة على الوفاء بمتطلبات أو توقعات الأداء من جانب مستهلكي السيارات). وهكذا فإن متطلب ولاية كاليفورنيا بأن تكون الانبعاثات الغازية من عوادم السيارات صفراً بحلول التاريخ المشار إليه حتى وإن كان لم يحقق الغرض المتوخى منه في الأجل القصير، إلا أنه وفر الأساس لعودة السيارات الكهربائية إلى الشوارع مرة أخرى.

استناداً إلى ذلك أعاد مجلس المصادر الهوائية دراسة الطلب المبدئي للسيارات الكهربائية (ZEV)، ولكنها لم تتراجع عنه. وقد ساعد ذلك العوامل الأخرى، على التكيف مع المتطلبات التي تمهد الطريق لظهور الجيل الحالي من السيارات الكهربائية. يعني هذا أن السباق الذي كان قد انتهى تقريباً منذ قرن من الزمن قد بدأ مرة أخرى، لكنه يحتاج ربما إلى قرن كامل قبل أن تحسم نتيجته، ويتم التأكد من أن السيارات الكهربائية صالحة للإنتاج الكبير لتلبية حاجات السوق، وليست مجرد سيارة تظهر في فترة ما لتجد طريقها بعد ذلك إلى زاوية من زوايا التاريخ.

 

دانيال يورجن

عن موقع (ECONOMY WATCH)

ترجمة: ع . س

العدد 1104 - 24/4/2024