العوامل المجتمعيّة لظاهرة العنف وتأثيرها على أطفال اليوم

الظّاهرة الّتي تقلق عالم اليوم هي ظاهرة العنف، فقد عاناه وطننا وشعبنا خلال الأزمة بصورةٍ واضحةٍ. نحن اليوم بصدد معالجة العنف، ولكن علينا أوّلاً البحث عن جذور المشكلة ومعرفة أسبابها كي لا نفشل.

من المعروف أنّ الطّفولة السّعيدة تعني شباباً سليماً يتمتع بالصّحة النّفسيةِ والسّعادة، ولكنّ للأسف، نحن اليوم، نُسيء إلى الطفولةِ، وذلك من خلال المواقف الّتي يعيشها الأطفال: التّفجيرات وعمليات التّخريب التي يقوم بها المسلحون، مشاهدة الجثث المنتشرة، المجازر الّتي تحدث كُلّ يوم في كُلّ بقعة من بقاع الوطن سوريّة، الأحاديث الّتي يجري تداولها في البيت دون توعية الطّفل للواقع الحقيقي للأزمة، المشاهد العنيفة تعرض على شاشات الأخبار.. إلخ.

بات الأطفال إذا سمعوا صوت تفجير يتراهنون على نوع السلاح الذي صدر عنه الصّوت. لقد مرّت الطّفولة بحقبة مريرة من تاريخ سوريّة  خلال الأزمة الّتي نعيشها، أُسيئت فيها معاملة الأطفال. ما الحلّ إذاً؟ ومن أين نبدأ؟ وكيفَ سنخرجُ أطفالنا من حلقة العنف؟

أقصدُ بحلقة العنف تلك البوتقة الّتي يعيشها الّذين تعرضوا لسوء المعاملة والقسوة والعنف في طفولتهم، إذ نجد لدى هؤلاء ميلاً لممارسة العنف الّذي طُبّق عليهم وعلى أطفالهم وأولادهم، فالأمّ والأب اللّذان تعرضا للعنف وهم صغار قلما يستطيعان ضبط أعصابهما، بل قد يعمدان إلى تعريض أطفالهما للعنف البدائيّ والنّفسيّ.

كما تؤكّد الدّراسات العلمية أنّه كلّما كان تواتر العنف أكبر، كانت الفرصة أمام الضّحية أكبر لكي يشبّ ويصبح أباً عنيفاً. وهكذا يستمر مسلسل العنف داخل الأسرة، ويستمر جيلاً بعد جيل، مما يفقد تلك الأسرة السّعادة والنّجاح، أو حتّى الأمل بحياةٍ هانئة ومستقرّة (حسب ورقة العمل الّتي قدّمت للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدّة في دورتها 54 من شهر آذار 1998م).

وقد نصّ المبدأ العاشر على أهمية حماية الطّفل من الممارسات الوحشية والحروب الّتي لا تحملُ في أحشائها سوى الألم والموت والمعاناة للنفس البريئة. في القرن الفائت، اجتمعَ زعماء العالم في مؤتمر القمة العالمي من أجل الطّفل، وأخذوا على عاتقهم التزاماً مشتركاً، وأصدروا نداءً عالمياً طالبوا فيه بضمان مستقبل أفضل لكلِّ طفلٍ.

ولكن أين هم هؤلاء الزّعماء مما قدّموه للطفل السّوريّ من أمن ورعاية خلال السّنة والنّصف الأخيرة، لقد أرسلوا إليه صناديق من الأسلحة والمتفجرات، صناديق من التّدمير النّفسي لحربٍ صنعتها أيدي الكبار من زعماء العالم ووقع ضحيتها الأطفال الصّغار.

 أثبتت دراسات التّربويين أنَّ الزّمن لن يشفي الصّدمة بل سيحولها إلى مزمنة، إذ قاموا بتقسيم ردود أفعال الأطفال إلى المستويات الآتية:

1- ردود فعل أوّليّة: وهي مرحلة من التّخدير الحسّي عند سماع الانفجار، ثمَّ الانتقال بعدئذٍ إلى مرحلة من عدم الاستيعاب للحدث، تليها مرحلة الهستيريا من الصّراخ والبكاء.

2- ردود فعل قريبة الأمد: وتتجلى في صعوبة التّفكير، يرافقها حالة من الاضطراب والقلق.

3- ردود فعل متوسطة الأمد: ويبدأ فيها الإنسان بالشّعور بعدم الاطمئنان، وأحياناً الإحساس بالذّنب لعدم قدرته على المساعدة، إذ تنتابه موجة من الغضب النّاتج عن العجز وهذا يؤدي إلى انتكاسات نفسية وجسدية.

4- ردود فعل طويلة الأمد: وتعتمد على قدرة الإنسان على التّكيف مع الأحداث.

ولابد أن نشير إلى أن الصّدمات الّتي يتعرض لها الطّفل بفعل الإنسان أثرها على النّفس أكبر بكثير من الأثر الّذي تتركه الكوارث الطّبيعية، وأكثر رسوخاً بالذّاكرة. ويزداد الأمر صعوبةً إذا تكرّرت هذه الصّدمات لتتراكم في فتراتٍ متقاربة، ومن صعوبات الكشف عن هذه الحالات هو عدم قدرة الطّفل على التّعبير عن مشاعره أو وصف الحالة النّفسية الّتي يمرّ بها، بينما يقوم العقل بتخزينها مما يؤدي إلى مشاكل نفسية عميقة، خاصّةً إذا لم يتمكن الأهل أو البيئة المحلية من احتوائه واستيعابه ومساعدته على تجاوزها.

ومن أهم الأمور الّتي تأثر بها أطفال سوريّة خلال الأزمة: سوء التّغذية، المرض، اليتم، التّعرض لمشاهد عنيفة، إرغام بعضهم على ارتكاب أعمال عنفٍ، اضطراب في التّربية والتّعليم.

ويرى المختصون في سلوكيات الطّفل أنّه إضافة إلى الحالات السّابقة قد يرافق الطّفل حالة من الخوف المزمن، من الأحداث أو الأشخاص أو الأشياء الّتي ترافق وجودها مع وقوع الحدث مثل رؤية المسلحين، الأصوات المرتفعة.. إلخ. وقد يعبّر الطّفل عن مشاعره في بعض الأحيان بالبكاء والصّراخ أو الغضب أو الانزواء في حالة من الاكتئاب الشّديد، إلى جانب الأعراض الّتي قد ترافقه مثل الصّداع، وجع في البطن، ضيق في التّنفس، التقيؤ، تبول لا إرادي، فقدان الشّهية أو العكس الشّراهة، رؤية كوابيس، آلام وهمية في حال مشاهدته لأشخاص يتألمون أو يتعذبون. وفي حال مشاهدة الطّفل لحالات وفاة قاسية لأشخاصٍ مقربين منه أو رؤية جثث مشوّهة، قد يُصاب الطّفل عند ذلك بصدمةٍ عصبية قد تؤثر على قدراته العقلية.

ما الحلّ إذاً؟ من أين نبدأ؟

ضّروريّ جداً أن يُشرح للطفل سبب الأزمة والدّوافع الّتي أدت لوجود مسلحين، أمّا في المراحل الأولى من عمره فهو بحاجة إلى الحبّ لكي يشعر بالاطمئنان والأمان.

ويجب أن بنتبه الأهل أو الرّاشدون من المجتمع المحلي عدم ترك الأطفال وحدهم في مواجهة مثل هذه المشاهد العنيفة دون دعم نفسي، وذلك عن طريق الحديث المتواصل معهم وطمأنتهم بأنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام، وأنّه لن يُصيبهم مكروه مع التّركيز على بث الرّوح الإيجابية بكلمات الحبّ والتّشجيع، وصرف انتباههم بالتّركيز على أمر آخر، مثل اللّعب بقطع التّركيب أو صنع الحلويات من العجين، أو صنع لوحة من قطع الورق الصّغيرة… هذه الألعاب تحتاج إلى دقة وتركيز، وبالتّالي ستصرف انتباه الطّفل عن التّفكير بالأصوات الّتي يسمعها أو التّحدّث عن المشاهد الّتي ربما شاهدها مصادفة في الأخبار.

وبالنسبة للأطفال الأكبر سناً يمكن مناقشة ما يجري معهم وإقناعهم بأنّهم آمنون ولن يُصيبهم أيّ أذى، وأن الأهل يتخذون الاحتياطات لحمايتهم، مع ضرورة عدم منعهم من البكاء أو السّؤال عن ما يجري والحديث عنه. فمن الضروري معرفة ما يدور في تفكير الطّفل، وأن نترك لمشاعره العنان في هذه الأوقات  حتّى لا تتراكم الصّدمة…. ويمكن تشجيعهم على الحديث بمبادرة من الأب أو الأم للتعبير عن مشاعرهم مع اختيار الأسلوب والألفاظ الّتي يمكن للطفل استيعابها والتجاوب معها .

ومن المهم أيضاً أن يراقب الآباء تصرفاتهم، ويحاولوا المحافظة على هدوئهم، ليزرعوا الثّقة في قلوب أطفالهم، مع الانتباه لأحاديثهم أمامهم، وألاّ يغيّروا من نمط حياتهم قدر المستطاع.

العدد 1104 - 24/4/2024